شعار قسم مدونات

الآن أتجهز للرحيل

blogs woman walk

اختبرني الموت أول مرة وأنا ابنة الستة عشر عاما في إحدى صديقاتي، علمت خبر وفاتها صباحا في الطابور المدرسي، أخبروني بأنها توفت أثناء خضوعها لعملية جراحية نتيجة جرعة بنج زائدة، أخبروني وانصرفوا وبقيت أنا واقفة، انصرف جسدي معهم لكن داخلي توقف قليلا في بعض المحطات؛ لطالما وددت أن أخبرها كم هي طيبة، لطالما وددت التقرب منها ولكن لسبب ما لا أعلمه لم يحدث هذا، توقفت قليلا عند ماذا كان ليتغير لو أطلقت ما كان حبيس دواخلي!؟ هل كانت لتتشبث بالحياة أكثر!؟ لا أعلم، كل ما أعلمه أنها ماتت وانقضى الأمر.

بعد تلك الحادثة بعام واحد فقط، وجدتني أواجه الموت مرة أخرى، توفت جدتي بعد صراع مرير مع المرض، ومرة أخرى صرخ من صرخ وبكى من بكى، ووقفت أنا أتساءل أتراها تسامحني على عدم زيارتي لها في المستشفى سوى مرة واحدة؟ أتراها تعلم أن السبب لم يكن نسيانا أو تجاهلا بل كان ضعفي؛ فلم أقو على رؤيتها مكبلة بكل تلك الأجهزة، لم أقو على الشعور بالموت فاتحا ذراعيه على آخرهما، لم أقو على التماسك.

أطلقت سراح طيور كانت حبيسة داخلي، لا أقول بأني جاهزة للرحيل الآن، ولا أدعي المثالية ولكنني بدأت ويكفيني هذا كحُجة

كانت تلك المرة الثانية لجدتي في المشفى بسبب ذات المرض، لعنة السرطان التي حرمتني إياها، وأذكر أني في المرة الأولى لم أزرها قط واكتفيت بالدعاء؛ دعوت الله كثيرا وأبرمت العديد من الصفقات بأن أعدها إلينا مرة أخرى يا الله وسوف أخبرها بكل ما أخفيته، سأخبرها كم أنا شاكرة لأنها كانت تحفظ عن ظهر قلب كل الأطعمة التي لا أحبها عكس أمي التي ما زالت تندهش من أني لا آكل هذا الطعام، سأخبرها عن سعادتي حين كانت تحضر لي طعاما خاصا غير ذاك الذي أكرهه، سأشكرها في نهاية تلك المكالمة التي كانت تسبق رمضان بليلة واحدة وهي تسألني "تحبي تفطري ايه بكرة؟" سأعتذر عن كل مرة علا فيها صوتي وتأففت، سأقبل جبينها وأغط في النوم.

كتب الله لها عمرا آخر وخالفت أنا صفقتي ولم أخبرها، امتلكني الصمت ورحت أتوه في دوامة، لتمضي عشرة أشهر وأجدها مرة أخرى في مواجهة مع هذا اللعين، عاد أقوى هذه المرة متمسكا بغنيمته مصرا على أن يطفئ شعلتها، وشَعرتْ هي بذلك فودَعت البيت بنظرات لن أنساها قبل أن تبتسم وتركب التاكسي في طريقها للمستشفى أو في طريقها للاعودة، وظللت أنا كسابق عهدي أدعو وأبرم الصفقات وأتوسل، ولكن الله شاء أن يسترد أمانته وشعرت أنا بأن هذا عقاب على صمتي للمرة الثانية.

ولكني لم أتقن الدرس فظللت أصمت وأخسر، تزداد قائمة الراحلين ويزداد صمتي حتى وجدت الطبيب ذات يوم يخبرني بأنني لابد أن أخضع حالا لعملية جراحية، وفي أقل من خمس عشرة دقيقة كنت في غرفة العمليات وحيدة، مستلقية على سرير بائس تحيط بي أنوار منبعثة من كشافات كئيبة، متجاهلة كل محاولات طبيب التخدير بفتح حديث معي، حتى بدأ المخدر مفعوله ووجدتني أنسى كل شيء لأتذكر تلك الصديقة التي رحلت قبل ثمانية أعوام بسبب طبيب زميل لهذا الذي يقف فوق رأسي ملقيا نكات سخيفة.

 

شعرت بالموت الذي أحسسته في المرة الوحيدة التي زرت فيها جدتي، وددت لو أقفز لأخبره "انتظر.. لست جاهزة لتلك المغامرة، ماذا لو مت؟" في بضع ثوان تذكرت تلك الصديقة التي تركتها خلفي، ماذا لو كانت تحمل لي كرها!؟ تذكرت أني لم أخبر أولئك أني أحبهم، ولم أتأكد أن هؤلاء سامحوني على زلتي معهم، لم أنهِ أحلامي بعد، أو بالأحرى لم أبدأها، تلك القصيدة لم أصل لخاتمتها ولا وجدت فكرة المقال القادم، لم أثقل حقائبي بما يشفع لي حين أحاسب ولم أتجهز جيدا للموت، أعيروني بضع سنوات فقط.

بدأت بتحقيق حلمي بالكتابة وها أنا هنا، عدت للقراءة التي هجرتها شهورا وعاد شغفي بالأشياء مرة أخرى، تخلصت من الكثيرين الذين كانوا يثقلوا كتفيّ وحَمّلت حقائب الرحلة بأولئك الذين يستحقون
بدأت بتحقيق حلمي بالكتابة وها أنا هنا، عدت للقراءة التي هجرتها شهورا وعاد شغفي بالأشياء مرة أخرى، تخلصت من الكثيرين الذين كانوا يثقلوا كتفيّ وحَمّلت حقائب الرحلة بأولئك الذين يستحقون
 

سرعان ما تشوشت الرؤيا والسمع، رأيت الكشافات الكئيبة وكأنها ترقص وغلبتني تلك النكات السخيفة التي كانت تلقى فوق رأسي، وأخالني بُنِجتُ منها لا من البنج نفسه، لأفيق بعدها وأنا تحت تأثير المخدر أتحامل على نفسي وأفتح عيني لأتقن أني ما زلت هنا وما زال أمامي وقت.

كانت هذه التجربة كفيلة بأن تحركني، تخليت عن صمتي واستهزائي بمن لم يتعظوا من التجارب حولهم؛ فها أنا لم أتقن الدرس إلا في مرته الثالثة، لم أتقنه إلا بعد هزيمتين وبعض الخسائر خلال الرحلة، بدأت بتحقيق حلمي بالكتابة وها أنا هنا، عدت للقراءة التي هجرتها شهورا وعاد شغفي بالأشياء مرة أخرى، تخلصت من الكثيرين الذين كانوا يثقلون كتفي وحَمّلت حقائب الرحلة بأولئك الذين يستحقون، والأهم من ذلك أني أطلقت سراح طيور كانت حبيسة داخلي، لا أقول بأني جاهزة للرحيل الآن، ولا أدعي المثالية ولكنني بدأت ويكفيني هذا كحُجة.

جميعنا نجهل متى وأين تكون نهاية الرحلة، نجهل إذا كنا حقا نمتلك رفاهية "الغد" الذي نترك له كل أحلامنا تنتظر، وأعلم أننا بنو آدم لا نتعظ بحِكَم الأخرين كثيرا ولا نتأثر سوى بما يمسنا نحن، ولكن أعلم أيضا أننا سجناء الوقت وقد لا يعطيكم الوقت رفاهية الاختبار الذي يعلمنا ويلَقننا الدرس حتى نَعيه، فاعملوا على أن تكونوا جاهزين على الموعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.