شعار قسم مدونات

"اقتصاد التمرد".. الأسواق السوداء لمن هم ضد العالم

مدونات - تنظيم الدولة
"وفي هذا العصر؛ غرست أمريكا بذور الفساد [..] ليترأسوا نظاما رأسماليا استعباديا مبنيا على قطعة ورقية تسمى الدولار، الذي تفردوا بطباعته وإصداره وفرضه على باقي دول العالم [..].
 

والآن في هذه السماء، وفي هذا الزمان، يتحول صليل الصوارم وأصوات السهام الطائرة، إلى الزئير القاصف من لهيب الحرب [..] بينما تسحق الضربات الأولى لنظامهم المالي الشيطاني صنمي الرأسمالية التوأمين [..].

 

والآن، يعود أعظم معيار لتقييم الأموال بالعالم: (الذهب)، بدخول الخلافة بقوة إلى الدائرة المالية لتصيب النظام الرأسمالي الاستعبادي الأمريكي بالضربة الثانية، وتلقي بالدولار الاحتيالي إلى الخراب"

 

(إصدار تنظيم الدولة الإسلامية: "صعود الخلافة وعودة الدينار الذهبي" – ٢٩ أغسطس (آب) ٢٠١٥)

 

طائرات تخترق الأبراج، ودبابات تطلق القذائف، ورصاص بلا توقف. وكأن الإصدار الدعائي الذي استعرضه تنظيم الدولة حلقة أخرى من إحدى سلسلتيه الشهيرتين: "صليل الصوارم"، و"لهيب الحرب"، المخصصان لاستعراض عملياته، لا مقتبستين من إصدار يحمل هاجسا مختلفا تماما، ويتحدث عن موضوع آخر بشكل كامل، لكنه أساسي جدا في عمل، بل وبقاء، التنظيم ككل.

 

رأى كلارك أن أهمية سؤال الاقتصاد مضاعفة لدى التنظيمات المسلحة دون الدولة، لأنها، وبعكس الدول النظامية، لا تستطيع جباية الضرائب القانونية مقابل تقديم الخدمات

من بابل، في بلاد ما بين النهرين، إلى الموصل، ما بين النهرين كذلك، مرورا بكامل التاريخ والجغرافيا؛ استعرض تنظيم الدولة الإسلامية في إصداره الذي يروج به لعودة الدينار الذهبي، كعملة يسكّها من الذهب والفضة ويستخدمها في أراضيه، والذي أصدرته ما يسميها مؤسسة "الحياة"، كبرى مؤسساته الإعلامية المخصصة لإصدارات اللغة الإنجليزية، التاريخ المعروف للاقتصاد، بادئا بقصة المقايضة، ثم منتقلا إلى الذهب والفضة، ووصولا إلى نظام "بريتون وودز"، الذي تخلت عنه أمريكا في "صدمة نيكسون"، ثم دخلت، وأخذت معها العالم، إلى ما اعتبره التنظيم سبب تفوق الولايات المتحدة الاقتصادي، وبالتالي العسكري والسياسي: نظام البترودولار، معتبرا أن الانتصار على الولايات المتحدة يبدأ بهزيمة نظامها، وذلك بالرجوع إلى النظام "الذي أراده الله للبشر" -بحسب تعبير التنظيم-: إلى نظام الذهب والفضة.

 

وبينما يبدو الإصدار دعائيا -كبقية إصدارات التنظيم- ولا يمكن أخذه إلا ضمن سياق ورسائل محددة يسعى التنظيم لإيصالها، بعيدا عن المضمون الفعلي، خصوصا في ظل أنباء أن التنظيم ما زال يستخدم الدولار في مناطق نفوذه، وبينما يبدو أن التنظيم أثناء رحلته التاريخية نسي المرور على إسبانيا القرن السادس عشر، والتي خرجت كإمبراطورية من التاريخ منذ ذلك الوقت، بسبب توسعها باستخدام نظام الذهب والفضة مما تسبب في تراجع قيمتها وتضخم مالي لم تستطع مجاراته، وبينما يسير الاقتصاد الكبير للولايات المتحدة بجانب نظامها المالي مترافقين جنبا بجنب -لا على ساق عرجاء منهما دون الأخرى-، في حين يبدو أن التنظيم يعوض بإصداراته عن عجزه عن إيجاد مكان له في النظام المحلي أو الإقليمي، ناهيك عن مواجهة النظام العالمي عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا؛ يفتح إصدار التنظيم بابا واسعا وجرحا نازفا للتنظيمات الإرهابية والمتمردة على السواء: سؤال الاقتصاد.

 

"شركة التمرد التعاونية"

"شريان حياة أي منظمة عنيفة هو قدرتها على توليد الأموال"

(الباحث الأمني كولين كلارك)

 

بهذه العبارة المباشرة؛ اختصر الباحث الأمني بمؤسسة "راند"، كولين كلارك، أهمية التمويل للتنظيمات المتمردة والإرهابية. رأى كلارك، مؤلف كتاب "Terrorism. inc" أن أهمية سؤال الاقتصاد مضاعفة لدى التنظيمات المسلحة دون الدولة، لأنها، وبعكس الدول النظامية، لا تستطيع جباية الضرائب القانونية مقابل تقديم الخدمات، للاستمرار بالعمل العسكري الذي تسعى من خلاله لكسر "احتكار العنف" وتقويض أعدائها من الدول أو التنظيمات.

 

كتاب
كتاب "Terrorism. inc" لكولين كلارك (مواقع التواصل)

 

كبديل لذلك، يروي كلارك أن التنظيمات تدخل في ما يسميه: "اقتصادا رماديا"، و"اقتصادا مظلما"، حيث يختص الأول بخليط من النشاطات القانونية وغير القانونية، معتمدا على دعم المغتربين والجمعيات والتنظيمات الأخرى والدول، مستدخلا إياها ضمن أنشطة اقتصادية قانونية، يستخدمها لغسيل الأموال، لتبدو كقمة جبل جليدي يغطي "اقتصادها المظلم" المعتمد على وجوه متعددة من الجريمة المنظمة، مثل الاتجار بالبشر أو الأسلحة أو المخدرات، إضافة إلى جانب من القهر والتخويف المستخدم للجباية أو "الجزية" أو غيرها مما يمكن اعتباره "ضرائب محلية"، إضافة الاختطاف مقابل الفدية. هذه الأموال -التي تفرض الحاجة أن تكون دورية ليستطيع التنظيم الاستمرار في نشاطاته العسكرية أو الإرهابية أو حتى للحوكمة- تستخدمها التظيمات ضمن بنيتين اثنتين أساسيتين: القدرات العملياتية التي تضمن له الاستمرار الموضوعي، والقدرات الهيكلية التي يثبت بها وجوده الذاتي.

 

يتفق زميل كلارك في مؤسسة "راند"، الباحث الأمني الآخر، سيث جونز، معه في أهمية البعد "الاقتصادي" للتنظيمات، لكنه ينظر له من زوايا أخرى؛ فهو يعتبر أن "الطمع" يمثل عاملا ودافعا مهما أساسيا لبدء أي تمرد من الأساس، خصوصا في الدول الضعيفة، كما أن الدعم الخارجي والقتالي منه تحديدا منتشر، ويبدو طبيعيا في التمردات، (٨٢ بالمئة من التمردات الـ١٨١ التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية حصلت على دعم خارجي مالي أو قتالي أو خدماتي)، بل وأساسي في إنهاء التمرد لصالح التنظيم أو ضده، إذ إنه يضاعف نسبة الانتصار للمتلقي، خصوصا إن كان من دول كبرى.

 

في رحلة طويلة ودامية، وعلى وقع الرصاص والقذائف، وغبار المعارك والنفط المحترق، نسير في محطات واضحة لاقتصاد التمرد، للأسواق السوداء التي يحاول بها المتمردون الوقوف في وجه العالم، والتي تتقاطع وسائلها وتفاصيلها ما بين التنظيمات، ضمن تركيز أوسع محدد على تكتيك مالي دون الآخر.

 

"أغنى تنظيم إرهابي في التاريخ"


رقم1: عناصر تنظيم الدولة الإسلامية – صورة أرشيفية  (ناشطون)
رقم1: عناصر تنظيم الدولة الإسلامية – صورة أرشيفية  (ناشطون)

 

إذا كان انهيار برجي التجارة العالميين أحد أبرز المشاهد التي دخلت بها التنظيمات "الإرهابية" صراعها المفتوح مع القوى العظمى عسكريا واقتصاديا، والتي يرى بها مقاتلو تنظيم الدولة انتصارهم على "الرأسمالية"، فإن المشهد الأقل احتفاء من جانبهم والأقل تركيزا من العالم، ولعله يكون الأكثر تأثيرا للتنظيمات المسلحة على مدى التاريخ، هو دخول تنظيم الدولة إلى البنك المركزي، إلى قلب الرأسمالية نفسه.

فبعد الدخول المفاجئ لتنظيم الدولة إلى مدينة الموصل فجر ١٠ يونيو/حزيران ٢٠١٤، أدرك التنظيم الذي عانى ما عاناه خلال سنوات اختبائه تحت الأرض ما بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٩، وحدد أولوياته جيدا خلال تلك الفترة، إن أهم ما يجب السيطرة عليه وتأمينه هو شريان الحياة، عين ما يروج التنظيم لمعاداته: إنه البترول والدولار، أو بمعنى آخر (البترودولار).

انطلاقا من ذلك، كان أول ما توجه له التنظيم هو البنك المركزي والبنوك الأخرى، استطاع من خلالها سرقة ما تقدره الخزينة الأميركية ما بين: خمسمائة مليون: مليار دولار في يوم واحد، ليصبح التنظيم "أغنى تنظيم إرهابي في التاريخ"، بميزانية تتجاوز المليار دولار سنويا، وثمانين مليون شهريا، يديرها عشرات آلاف الموظفين الذين يسيطرون على أراض مركزية بحجم بريطانيا يسكنها أكثر من ستة ملايين شخص، مقارنة بأقل من ٢٠٠ موظف لدى سلفه وخصمه في الفضاء الجهادي: تنظيم القاعدة، ودخل سنوي يصل إلى ٣٠ مليون دولار فقط، بحسب الكاتب المختص بالشؤون الأمنية بريان فيشمان.

هذه الأموال يمكن اعتبارها "دفعة أولى" ممتازة للتنظيم، لكن الدخل الدوري يأتيه من خلال أربعة عوامل رئيسية:

لا يزال تنظيم الودلة يعتمد على نشاطات مباشرة تعتمد على الفدية مقابل الخطف، وتنظيم بيع وشراء القطع الأثرية التاريخية، من أراضي حضارات ما بين النهرين

* السرقات والنهب: المطابق لما جرى مع بنوك الموصل، والذي ركز عليه التنظيم لتحديد هجماته العسكرية على الآبار النفطية وخزانات الغاز والمعابر في سوريا والعراق.

 
* الجبايات والضرائب: والتي ينظّر لها التنظيم بشكل مباشر أيديولوجيا من الزكاة (٢,٥ من دخل المسلمين في أراضيه)، والجزية (أقر التنظيم أنها ١٧٨ دولار سنويا لفقراء غير المسلمين، و٨٧٥ لأغنيائهم)، إضافة إلى الضرائب "الأخرى" التي يقدرها التنظيم، مثل المفروضة على الرواتب التي يأخذها الموظفون الذين ما زالوا يأخذون رواتبهم من الدول النظامية في سوريا والعراق، والتي كانت تصل إلى ١٣٠ مليون دولار شهريا في العراق، على سبيل المثال.

 
* شركات الدول النظامية: وتحديدا الآبار النفطية وخزانات الغاز والمؤسسات الزراعية والغذائية التي كانت تسيطر عليها الدول النظامية، والتي تمثل "عجلة" اقتصادية كاملة، عمل التنظيم على تعزيزها والانطلاق منها، إضافة إلى الاتجار بها مع الدول والتنظيمات والفصائل المجاورة في السوق السوداء، رغم أن التنظيم يعدها كافرة ويقاتلها بشكل مباشر، والتي تؤمن له دخلا يصل إلى خمسمائة مليون دولار بالكلية من هذه التجارة، بحسب مصادر أميركية.

 
* النشاطات الإجرامية: والتي تحول معظمها إلى عمليات "ضرائب" و"جبايات" و"جزية" بعد هيكلة الدولة في مناطق سيطرة التنظيم. رغم ذلك، لا يزال التنظيم يعتمد على نشاطات مباشرة تعتمد على الفدية مقابل الخطف، وتنظيم بيع وشراء القطع الأثرية التاريخية، من أراضي حضارات ما بين النهرين أو الحضارة الرومانية في سوريا والعراق الغنية بالمناطق والقطع الأثرية النادرة، والتي لا تدخل قدرا من الأموال يوازي التركيز الإعلامي الرمزي لها، إضافة لغسيل الأموال وعمليات صرف الدنانير العراقية إلى الدولارات، والتي لا تتلقى اهتماما موازيا. 

 

الوكلاء

"إننا نعلم أننا لم نكن لنسقط الدكتاتور بدون دعم أمريكا وفرنسا وبريطانيا"

(يوسف أبو ليفة- متمرد ليبي)

 

في ٢٣ أغسطس آب ٢٠١١، استطاع الثوار الليبيون -وأخيرا- اختراق أعتى حصون الديكتاتور الليبي العتيدة في باب العزيزية. كان الثوار يصرخون: "خلصنا! خلص القذافي!"، رافعين علمهم الجديد الذي أعلنوا به القطيعة مع العهد القذافي. لقد كان الثوار محقين بذلك. انتهى العصر القذافي، ولكن هذا لا يعني أنهم يملكون مستقبلهم كما يريدون، ذلك أن حاضرهم -حينها- كان رهنا بالطائرات التي ساعدتهم على اختراق باب العزيزية ومواجهة أداة القتل المتوحشة للقذافي، بدأت الدول المرسلة لها "بقبض" فواتيرها مباشرة من حقول النفط الساحلية بعقود تستمر لعقود.

 

هذا الدعم الذي يأتي للتنظيمات المتمردة مثل الدعم القتالي (هو الأكثر تأثيرا) أو ملجأ أو تدريب، أو بضائع مثل الأسلحة أو كل ما دونها من غذاء ودواء وحياة، لا يأتي مجانا، فـ
هذا الدعم الذي يأتي للتنظيمات المتمردة مثل الدعم القتالي (هو الأكثر تأثيرا) أو ملجأ أو تدريب، أو بضائع مثل الأسلحة أو كل ما دونها من غذاء ودواء وحياة، لا يأتي مجانا، فـ"الدول وسواها ليست جمعيات خيرية"
 

لا تملك كل التنظيمات المتمردة الخبرة الطويلة والدامية لتنظيم الدولة، على سبيل المثال، كما أنها لا تملك أحيانا ترف الوقت والدم أمام خصوم وأعداء متوحشين لا يجيدون سوى تكتيكات "الأرض المحروقة" ولا يحبون أكثر من أسلحة الدمار الشامل، مما يدفعهم إلى أحضان قد لا يحبونها، ولكنها في لحظتها تكون أقل الشرور كما يقدّرون.

 

يعتبر الدعم الخارجي شائعا وخطوة لا بد منها في أي تمرد، سواء من دول أو تنظيمات أو جمعيات أو أفراد، وبالكاد لا يوجد تنظيم يستطيع أن ينفي عن نفسه أخذه لدعم عسكري أو مالي أو مادي، مباشر أو غير مباشر، بأخذها ممن يأخذونها اتفاقا أو قهرا.

 

وكما ذكرنا سابقا، فمن أصل ١٨١ حالة تمرد، كان الدعم الخارجي حاضرا في ١٤٨ تمرد، بحسب ما يحلل الباحث سيث جونز، دون أن يعني هذا أن تحصيل هذا الدعم بتجريده يرفع نسبة احتمالية الانتصار (باستثناء الدعم القتالي من دول عظمى مثل روسيا أو الولايات المتحدة الذي يضاعف احتمالات الانتصار).

 

هذا الدعم يمكن أن يأتي للتنظيمات المتمردة من عدة مصادر مفردة أو مشتركة معا، أبرزها: الدول، التي دعمت ما يقارب ثلاثة أرباع التمردات بعد الحرب العالمية الثانية، لدوافع إستراتيجية بالغالب، تليها تجمعات المنافي من المغتربين وسواهم، خصوصا إن كان النزاع أو التمرد يجري على خطوط عرقية أو طائفية، مما يرفع نسبة الاستقطاب والدافع للدعم، لدوافع شخصية أو "وطنية"، بتأثير أقل بكثير من الدعم الدولي، لكنها تضمن حالة من الاستمرارية، كما هو الحال مع تنظيم القاعدة، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على شبكات التمويل الخارجية التي ضمنت بقاءه، دون أن تضمن استمرار تأثيره، ثم يأتي اللاجئون في الدول المجاورة للصراع، والذين يشابهون المنفيين والمغتربين، لكن نوع دعمهم قد يكون مختلفا معتمدا على توفير الملجأ والمادة، على سبيل المثال، لا الدعم المالي، وأخيرا يأتي الدعم من الأقران من التنظيمات المسلحة (الإرهابية أو المتمردة أو الإجرامية)، والتي تشترك في أهداف تكتيكية أو إستراتيجية مع التنظيمات المدعومة، والتي أبرز مثالها اعتراف زعيم جبهة النصرة -حينها- أبو محمد الجولاني بتلقيه دعما من سلفه تنظيم القاعدة في العراق، قبل الانشقاق واندلاع النزاع المستمر حتى اليوم، في أحد المؤشرات على الاختلافات التكتيكية بين هذه التنظيمات في وقت لاحق.

 

هذا الدعم، الذي قد يكون على شكل خدمات، مثل الدعم القتالي (هو الأكثر تأثيرا) أو ملجأ أو تدريب، أو بضائع مثل الأسلحة أو كل ما دونها من غذاء ودواء وحياة، لا يأتي مجانا، فـ"الدول وسواها ليست جمعيات خيرية"، كما يقول المثل المعروف؛ بل يأتي بمساحة من السيطرة من الداعم على "الوكيل" المدعوم، تكتيكيا وإستراتيجيا بحجم هذا الدعم، وقدرة المدعوم على إدارة هذه المساحة ما بين "الصداقة" أو "التحالف" أو "الوكالة"، بما يتوافق مع أهداف مشتركة، لا كوسيلة مجردة، لتحقيق أهداف الداعم، بكلفة بشرية ومادية وعسكرية أقل، وبدماء سواها، مما يتطلب إداركا لهذه الثغرة، كي لا يتكرر نموذج المقاتلين العرب الأفغان في أفغانستان، والذين دعمتهم الولايات المتحدة والسعودية لتقويض الاتحاد السوفييتي، ثم عادتهم وحاربتهم بعد تحقق هدفها بالانتصار وطرد الروس من أفغانستان.

 

"مجتمع إسلامي"

 

عناصر من حزب الله اللبناني (الجزيرة)
عناصر من حزب الله اللبناني (الجزيرة)

 

عكس ذلك، بعيدا عن الدعم السنوي الذي تقدره الولايات المتحدة بـ٢٠٠ مليون دولار من إيران إلى حزب الله، من الأعلى إلى أسفل هرميا؛ يتربع "حزب الله" اللبناني، الذي تعده الولايات المتحدة تنظيما إرهابيا، على رأس شبكة معقدة من الجمعيات والهيئات والمؤسسات المحلية، في المجتمع الشيعي الذي تقدم نفسها كممثلة شرعية له.

 

ففي الذكرى الثامنة للثورة الإيرانية، ضجت الصحف اللبنانية بإعلانات مختلفة عن الإعلانات التقليدية، فأسفل إعلان "الصالة الملكية"، "ومطعم بوديغا"، وافتتاح "سوق الروشة الجديد"، على الصفحة الأولى لصحيفة "السفير"، كان هناك ثلاثة مستطيلات من اليمين إلى اليسار. يتقدم المستطيل الأول تهنئة من "الحوزة العلمية الدينية "صور" إلى "صاحب العصر والزمان الحجة المنتظر، ونائبه بالحق قائد المسلمين في العالم الإمام الخميني العظيم"، بإعلان شبيه من "حوزة الإمام المنتظر "بعلبك"، بجانب إعلان أخير من سفارة إيران في بيروت، تدعو "مسلمي العالم ومستضعفيه" إلى "الاحتفال الحاشد" الذي تقيمه في مدينة "صور".

 

هذه الإعلانات تكررت خلال الأيام التالية، بمصطلحات متقاربة وبذات المناسبة، من مؤسسات مختلفة، منها: "مؤسسة شهيد الثورة الإسلامية"، و"عوائل الشهداء في لبنان"، و"الهيئة الصحية الإسلامية في لبنان"، وعدد من الحوزات الدينية والشرعية، إضافة إلى "جمعية كشافة المهدي"، و"نادي الهادي الإسلامي الرياضي"، ثم أصبحت تتصدر صحف "السفير" و"الأخبار" و"النهار"، وتظهر على تلفاز المنار الذي تقدر ميزانيته السنوية بـ١٥ مليون دولار.

 

على الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية لأفغانستان، حيث تنشط تجارة الأفيون على طول الحدود مع باكستان، ينشط هناك شبكة من الزبائن والمروجين غير المتوقعين

تؤمن هذه المؤسسات على مستوى المجتمعات المحلية استمرارا ودخلا يضمن استمرار الحزب وشبكاته، مقابل تقديم خدمات لـ"شيعة" لبنان، الذين يقدم الحزب نفسه كممثل لهم، وينظرون له كحاميهم ومقدم الخدمات لهم، ضمن بيروقراطية داخلة ضمن الدولة نفسها، أو كـ"دويلة" ضمن الدولة.

إلا أن المثير للإعجاب -وربما للسخرية- في هذا التداخل بين المجتمع المحلي ومؤسساته وشركاته المتعددة والكثيرة، والذي يضمن دوران "عجلة" الاقتصاد"، المرتكزة بالدرجة الأولى على ميزانية من الدعم الإيراني الذي يتجاوز أحيانا ميزانية الدولة اللبنانية نفسها؛ أنه يجد لنفسه في الوقت نفسه خطا من النشاطات الإجرامية التي تضمن استمراره وبقاءه، أكبرها وأكثرها استمرارا شبكة المخدرات التي يديرها الحزب في أميركا اللاتينية، كنموذج من "التهجين" والتداخل بين مصادر "اقتصاد" التمرد المختلفة وأدواته.

 

الدين والأفيون والشعوب

على الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية لأفغانستان، حيث تنشط تجارة الأفيون على طول الحدود مع باكستان، ينشط هناك شبكة من الزبائن والمروجين غير المتوقعين. ففي إحدى المراحل الانتقالية لحركة "طالبان"، وتحول مقاتليها من "مجاهدين" إلى "مروجين"، أصبحت تجارة الأفيون أحد أهم مصادر دخل الحركة المتمردة، وأصبحت داخلة في سياسة المنطقة ككل، معتمدة على شبكة قديمة من العائلات والمهربين القدماء، وشبكات التهريب، وطرق غسيل الأموال المعتادة نفسها.


هذه الشبكة لم تكن مصدرا لدخل طالبان وحسب، الذي يصل تمويلها إلى ٥٠٠ مليون دولار سنويا؛ ضمن ميزانية تقدرها المصادر المحلية والأجنبية بمليار دولار؛ بل لعبت دورا رئيسيا بـ"إفساد" الموظفين والشرطة الأفغان، وكانت تجري على مستوى القرى واستقطابها واستدخالها ضمن هذه الشبكة التي توسعت وتعقدت مع الوقت، ودخل بها الاجتماعي والسياسي، إذ توفر أفغانستان ما يتراوح بين سبعين وتسعين بالمائة من الهيروين إلى العالم كله، والتي تتربع به أفغانستان في قلب "الهلال الذهبي" (المنطقة الجبلية التي تنتج معظم الهيروين إلى العالم).

  

لا تقتصر
لا تقتصر "طالبان" على تهريب المخدرات وحسب، بل تعتمد على الخطف كذلك، لتحصل على الفدى من الدول الأوروبية التي تسعى لتحصيل مواطنيها
 

لم تدخل الحركة الإسلامية المتمردة بشكل مباشر في إنتاج الهيروين ومشتقاته، بل كان دورها هو التجارة به لتنظيم عملية تهريبه خارج أفغانستان، وتهريب الكيميائيات المطلوبة لإنتاجه، والتعامل مع مسؤولي الحكومة -إرهابا أو رشوة- لعدم التدخل بهذه التجارة، إضافة لحماية مصانع الهيروين، التي تحصل طالبان على ثلث إنتاجه الأفغاني الكلي.

 

ولا تقتصر "طالبان" على تهريب المخدرات وحسب، بل تعتمد على الخطف كذلك، لتحصل على الفدى من الدول الأوروبية التي تسعى لتحصيل مواطنيها، إذ دفعت فرنسا وإيطاليا عدة ملايين مقابل مواطنين لهم، وحتى بريطانيا، كما قيل، دفعت فدية مرة واحدة على الأقل، رغم اتفاقها مع الولايات المتحدة على عدم دفع فدى للتنظيمات الإرهابية. إضافة لذلك، تمول "طالبان" نفسها عبر ابتزاز المنظمات غير الحكومية مقابل تأمين الحماية لها، أو من المواطنين الأفغان والباكستانين، مما يدخل لها ٥٠ مليون دولار سنويا تقريبا، تضاف إلى دعم المخابرات الباكستانية لها.

 

"اقتصاد" لـلـ"اقتتال"

بالنظر السريع إلى النماذج السابقة، يبدو أن مصادر دخلها تتفاوت ما بين المصادر الخارجية؛ دعما أو تسهيلا أو تجارة أو فدية أوابتزازا، والمصادر الداخلية؛ معتمدة على المجتمعات المحلية بشكل قد يكون قانونيا أو غير قانوني معتمدا على الإجرام، وكما اتضح فهو قد يتدخل ويتعقد ضمن عدة مصادر مختلفة ومتداخلة لتؤمن تمويل هذه الحركات وتضمن استمرارها وقدرتها على المقاومة العسكرية والسياسية، وتعطيها مساحة من الشرعية الاجتماعية والدعم الشعبي.

 

في الحالة العربية، يأتي التمرد كنسق متكرر في عدد من الدول الفاشلة، ويبدو النفط حاضرا كـ"لعنة" دائمة، سواء بدعم وكلاء أو حلفاء أو أصدقاء ضمن تمردات على دول فاشلة، أو كمصدر مباشر لتمويل هذه التنظيمات عبر التجارة بها وإعادة تكريرها، أو كجاذب للتدخلات الخارجية و"الغزاة" الذين يجلبهم "الطغاة"، في حلقة -قديمة جديدة- من العنف والفساد والسرقات، والعنف والفساد والسرقات المضادة، لم تستطع الثورات كسرها بعد، فتحولت إلى تمردات تبدو دموية وبلا أفق قريب.

_____________________________________________________________

المصادر:

– The Master Plan – Brian Fishman
– Waging Insurgent Warfare – Seth G. Jones
– Terroism. inc – Collin Clarke
– دولة حزب الله، لبنان مجتمعا إسلاميا – وضاح شرارة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.