شعار قسم مدونات

"ريهام البدر".. والموت المرابط في اليمن

ريهام البدر

ماتت ريهام الحقوقية قبل يومين في مدينة تعز وهي منهمكة في تنفيذ أحد المشاريع الإنسانية التي اعتادتها ضمن مبادرات شبابية خالدة تنشد إزاحة شزر من مآسي سكان المدينة المنكوبة. لم تكن تدري بأن ثمة كائنا ميليشياويا يتربص بإنسانيتها الجامحة في وطن يعج بالقتلة ليهديها رصاصة مشحونة بالحقد أردتها قتيلة في الحال، وأردت معها آمال المئات من الأسر المنكوبة ممن تقطعت بهم سبل العيش، وصودرت حقوق معيليهم في الحياة على أياد لا تستسيغ الحب ولا تؤمن بالتعايش.

غادرت ريهام الحياة بعد عام على استشهاد شقيقها على يد ذات القاتل المرصع بالضغينة ضد كل الوجوه المسالمة، فقد منحها القاتل أقرب وسيلة نقل لوصل أخيها الذي تركها وحيدة في مواجهة الحصار الخانق على مدينة تعج بالسكان المدنيين وذهب إلى دار القرار بعد رحلة حياة قصيرة عمرها بالحب والسلام.

لم أكن أتخيل إطلاقا أن يصل الحقد بتجار الحروب في وطني أن يجعلوا من النسوة أهدافا مشروعة لنيران أسلحتهم ويحملوهن محمل خصومة، خصوصا إذا كان الأمر متعلقا بشابة قانونية وحقوقية كريهام التي لم تحمل سلاحا قط، عدا حملها للسلال الغذائية وتوزيعها على المعسرين وضحايا الصراع المحتدم في مدينتها الجريحة.

لا شيء يدعو للتعجب، أنت في اليمن.. بلد يغشاها الهرج والمرج من شتى الجهات، يعشقها السل والجرب ويلفها شبح المجاعة تحت إبطه بتحامل فج

لم تكن ريهام أولى ضحايا ذلك الصراع ولن تكون الأخيرة، فقد أمسينا جميعا ضحايا لألم يتمدد بقوة في عموم البلد، وليس بأيدينا إيقاف وتيرة الموت.. نحن في نظر أرباب الصراع أرقام ضمن رصيد حروبهم المقدسة، لا تعنيهم حيواتنا، ولا تهمهم مشاريعنا التي تُعلي الحياة وتقدس التعايش، هم فقط مهتمون بالمكاسب الشخصية والسياسية التي سيجنوها من مآسينا، بل إنهم يستكثرون علينا العيش في سلام، ويسخرون من مدنيتنا التي ما برحنا نعض عليها بالنواجذ في مجتمع فُرضت عليه الملشنة والتقوقع في مساحات سياسية وعقائدية ضيقة.. لدرجة أن تجد مسلحا يحشر خصريه وسط آلات الموت يتهكم على شاب مدني يحمل في جيبه قلما، ويرى في المدنية خروجا فاحشا على الرجولة ومواصفاتها وفقا لثقافته التي جُبل عليها، وبناء عليها بات يصرف صكوك الرجولة على كل من يثقل جسده بشتى آلات القتل ويمتهن القتل كوسيلة للتسلط وإدارة شؤون البلاد.

كان للجهل دور في تمدد مصيبتنا كيمنيين مزقتهم الحرب، وكان للدين دور في تفتيت النسيج المجتمعي وتفريخه في طوائف مليشياوية متناحرة، وللمجتمع الدولي دور أيضا في تأجيج خلافاتنا وفقا لمآرب وأجندة خاصة تُرجى من وراء نزاعنا الذي وصل ذروته، لكن الجهل والدين كان لهما الدور الأبرز في ذلك الصراع، إذ إن تجار الحروب استخدموا الخطاب الديني لجذب المقاتلين وحشد الأنصار ضد خصومهم السياسيين، فالخطاب الديني يلعب على وتر العاطفة ويوفر الدافع النفسي للكتل الدهماوية، والجهل يدفعها لتبني مشاريع القتلة واعتناقها بكل مثالبها، دون إعطاء فرصة للعقل لتمحيص تلك المشاريع العفنة وسبر أغوارها بتمعن، والنتيجة مئات القتلى يسقطون يوميا في جبهات القتال تحت رايات المتنازعين، وآلاف البيوت قد لفها الحزن جراء طغيان الموت على حياة ذويهم، فلا يكاد يمر يوم إلا والمقابر مفتوحة تتلقف الموتى بشهية مرعبة، في ذات الوقت الذي بلغت فيه ثلاجات الموتى حد التشبع والاعتذار عن استقبال جثث جديدة.

لا شيء يدعو للتعجب، أنت في اليمن.. بلد يغشاها الهرج والمرج من شتى الجهات، يعشقها السل والجرب ويلفها شبح المجاعة تحت إبطه بتحامل فج. مصابنا فادح كيمنيين وبتنا نقتل بعضنا تحت رايات ساذجة، وساستنا باتوا مطايا لقوى أجنبية ينفذون ما يُملى عليهم فقط رغبة في المال والمناصب، أما نحن العامة فكتب علينا الصمت، والشقاء، والموت، أو السجن وهو أدنى الأضرار إن لم تطلنا رصاصات المتغطرسين.

سنموت اليوم أو غدا فهذه مشيئة إلهية لا سبيل للاعتراض عليها، والموت بات مرابطا في بلادنا منذ زمن، ولكن المؤسف أن نموت تحت رايات لا تنتمي لليمن الكبير ولا الدين الحق
سنموت اليوم أو غدا فهذه مشيئة إلهية لا سبيل للاعتراض عليها، والموت بات مرابطا في بلادنا منذ زمن، ولكن المؤسف أن نموت تحت رايات لا تنتمي لليمن الكبير ولا الدين الحق
 

أقلامنا متهمة بالخيانة إن مارسنا حقنا في النقد، توجهاتنا مشكوك فيها، حتى "اللايكات" التي نضعها على ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي تخضع لتحليلات للكشف عن دوافعها، وبعضنا اقتيد إلى السجن على خلفية تغريداته في فيسبوك، وبعضنا قتل وهو يحمل مساعدات غذائية للأسر الفقيرة في مناطق الصراع الملتهب كالمحامية ريهام سالفة الذكر، ويبدو أن الوطن كتب عليه أن يصبح ديوان عزاء مفتوح، والبركة في أباطرته ومترفيه ممن تسرهم مناظر الموت وتسكرهم روائحه.

سنموت اليوم أو غدا فهذه مشيئة إلهية لا سبيل للاعتراض عليها، والموت بات مرابطا في بلادنا منذ زمن، ولكن المؤسف أن نموت تحت رايات لا تنتمي لليمن الكبير ولا الدين الحق بقدر انتمائها لإيديولوجيات تآمرية تنضوي تحتها أطماع سياسية ومادية هابطة، والمؤسف أكثر أن تصطادنا رحى الموت دون جريرة تستوجب أن ندفع حياتنا ثمنا لها.

مؤلم أن تصطادك رصاصة غادرة وأنت تمد يديك لمساعدة الضعفاء من أبناء جلدتك، والأشد إيلاما أن يتعمد القاتل إشباع دمويته بإزهاق روح أنثى بريئة في تحد صارخ لقيم وعادات البلاد قبل المواثيق والمعاهدات الدولية نفسها. ماتت النخوة في كل قاتل ترصد أرواح الأبرياء، وماتت الجمهورية اليمنية بين مطامع المتنازعين من أبنائها على المال والسلطة والنفوذ، وباستشهاد ريهام فقد متنا أجمعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.