شعار قسم مدونات

لنحيي حياتنا

مدونات - الحياة
فجعني الموت مرتين في ليلة واحدة بوفاة زميل عزيز على قلبي، وسويعات بعد ذلك بوفاة جدتي رحمة الله عليهما. هذا الحادث بين عشرات من قبيله أيقظ في نفسي ذلك السؤال المتجدد حول علاقة الإنسان بالموت والحياة. 

نستمر في حياتنا بين إقبال وإدبار، نتقاطع في غريزة حب الحياة مع باقي الكائنات الحية، رغم إدراكنا استحالة الديمومة و قدرية الزوال. سؤال الموت أبدي وأسطوري للإنسان، جر عبر العصور استيهامات وأفكارا وقيما. ما إن يصادفه شخص في زحمة الحياة، حتى يتوقف في لحظة تأمل ويسترجع أفكاره عن مدلول الحياة و معنى الوجود. نفس الاسترجاع والتساؤل يطرحه كل البشر مهما اختلفت أقدارهم ومكاناتهم في مجتمعاتهم. وفي غالب الأحيان تتحول هذه الأسئلة إلى تمرين روتيني متكرر بشكل ميكانيكي ينطلق كرد فعل عادي لحدث عادي، وفي حالات قليلة قد تستبطن تلك الأسئلة أجوبة تقلب حياة الأشخاص رأسا على عقب، وتفتح دورات حياة جديدة تقطع مع ما قبل مصادفة الموت.

ظلم كبير أن نموت حيث تجب الحياة، وأن نحيا حياة ميتة.. ظلم كبير أن تموت فينا معاني الحياة وأن نستكين للموت القاتل لكُنهها ووجودها.. فالحياة لا معنى لها عندما نخنع ونخضع

يظل الموت شبحا يتهادى أمام ناظرنا في كل لحظة، في كل ثانية من الحياة، في تلك المفارقة الثنائية التي نخوض غمار الحياة فيها، بين الحياة والموت، بين الصواب والخطأ، بين الحق والباطل، بين الحب والكراهية… بين الخير والشر. نستمر في الحياة، لكننا لا نملك أن نضع حدا لمداها، ولا نقرر بخصوص مستقرها ومنتهاها. نستمر في حياتنا ونراجع مسارها بعد كل إطلالة للموت ومرور عابر له في تفاصيلها. قد يتغير سلوك البعض، ويقبل على الحياة دون رادع أو وازع على اعتبار قصرها مهما طالت سنواتها، وهو حال من لا يضع في الأفق أن الموت محطة نحو الحياة الحقيقية. بينما المؤمن بقدرية ربانية للموت، يستمر في مواجهته متأكدا من ضرورة حلول لحظة الاندحار، يستمر في مواجهته بالاستمرار في الحياة مستجيبا لفطرة الله التي فطر الناس عليها، فطرة إعمار الأرض بالخير.

لن تتوقف يوما هذه الصيرورة، وستنتهي بسيادة الموت على الحياة، ثم عودة الحياة بلا موت. وما دمنا في مرحلة الصراع هذه، وجب استمرار الحياة وفق معنى الحياة، والتي تحمل شعار رفع التحدي فتح أبواب المستقبل رغم أنه قد يغلق في لحظة ما، في مكان ما، بقوس الموت. ولعل أخطر ما يتهدد حياة الإنسان ليس الموت في حد ذاته، إنما موت الحياة بقتل الأمل والألم فيها. فالحياة جميلة بآلامها التي تعطي معنى لآمالها وجمالها ورونقها. إن أجمل ما في الحياة هو السعي خلالها لتحويل كل لحظاتها محطات للبذل والعطاء والإنتاج. وما نعيشه اليوم هو خوفنا على حياتنا رغم توقفها عن الحياة كبشر يُعْمِلون سنة الله في الأرض، بشر تحولوا نحو الشهوات والملذات متبرمين من كل لحظة ألم، بل لم يعد ألم موت قريب أو بعيد، عدو أو صديق يحرك ذلك التساؤل الأبدي حول معنى الحياة.

لقد استمرأ الإنسان الموت وطغى لديه شعور الإقبال على الحياة بالطول والعرض رغم أن الحياة الحقيقية ليست بمقدار طولها بل بمقدار الأثر الذي نتركه في دنيا الله الفانية، الموت في حد ذاته مدعاة للحياة الحقيقية، فلهزم الموت ينهل الإنسان من الزمن كل ثوانيه على قلتها على أمل استيفاء دوره الذي رسمه لنفسه، والذي يغير سقفه باستمرار مع توالي محطات النجاح والفشل، الأمل والألم، القوة والضعف… الحياة والموت..

ظلم كبير أن نموت حيث تجب الحياة، وأن نحيا حياة ميتة.. ظلم كبير أن تموت فينا معاني الحياة وأن نستكين للموت القاتل لكنهها ووجودها.. فالحياة لا معنى لها عندما نخنع ونخضع لجبورت الظلم فيها، ولقوة المتسلط على مناحيها، فلن يملك كل جبار مهما علت سطوته أن يمنع الموت عن نفسه أو يوزع صكوك الحياة لغيره. لا حياة إلا بالحرية من الموت، فلنحيي حياتنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.