شعار قسم مدونات

القراءة عمل غير ممتع!

مدونات- القراءة
من الأمور الباعثة للأمل والمبهجة رؤية هذا الإقبال على الكتب في مناسبات كمعارض الكتب وقراءة مناقشات الشباب على مجموعات خاصة بالقراءة على وسائل التواصل الاجتماعي، وفكرة تبادل الكتب ووضع مقتبسات من هنا وهناك تشجيعا لآخرين وحثهم على قراءة عنوان دون الآخر، وهذا الوعي مهم جدا.
تتعدد وحشات القلوب ووحشة الكتاب خاصة جدا مما يدفع الكثيرين لإدمان القراءة في مجالات مختلفة، فهناك من يقرأ للاطلاع، ومن يقرأ للاكتشاف، ومن يقرأ لتطوير لغته، ومن يقرأ للترفيه عن نفسه بعد يوم دراسة أو عمل طويل، وفي كل خير.

لكن القراءة ليست بالعمل الممتع كما نظن، من الأمور التي نلاحظها مؤخرا بروز عناوين دون أخرى باعتبارها الأكثر مبيعا والتي يلاحظ في أغلبها أنها روايات يشهد لها بالأسلوب والمضمون الجيدين، لكن السؤال المطروح؛ هل هذه الروايات تكفي لتكوين الوعي الذي نتوخاه من القراءة كحل منقذ؟

كلنا مر بتجربة قراءة الروايات أو بعض الكتب التي حسنت من مستوى تفكيره وأسلوب كتابته وترتيب أفكاره، وفي كل مرة نسمع بعنوان جديد فلا نبرح نبحث عنه إلا وهو بين أيدينا، إلا ونحن عند آخر سطوره، ثم ما نفتأ نبحث عن عنوان آخر لنشبع احتياجا معرفيا آخر. لكن الحقيقة أنه مع مرور الوقت ينتابنا إحساس بعدم الاستفادة مما نقرأ بالشكل المطلوب، أو على الأقل لا نتقدم معرفيا استنادا لما نقرأ بالشكل التي نتوخاه، فنطرح السؤال لماذا؟

إن القراءة المتأنية الممنهجة تجعل المعلومة تترسخ في الذهن، ومع التراكم بهذه الطريقة؛ يتكون لدينا نوع من المعرفة تعزز بالبحث الموازي والقراءات المكملة، أما القراءات العابرة غالبا ما يكون تأثيرها لحظيا

وغالبا ما يكون الجواب أنه يجب أن نغير نظرتنا للأمر وإلا فحصاد معرفي بالدسامة والمعرفة التي نتوخاهما لا يمكن أن يتم دون جهد مسبق، الأمر لا يهدف للتقليل من أهمية القراءة كيفما كان نوعها، بل هو توجيه لكل منا نحو الطريقة الأمثل لحدوث الاستفادة المرجوة.

تختلف القراءة بين القراءة الاستكشافية والانتقائية والتحليلية حيث إن هناك:
– قراءة من أجل التسلية وملء الفراغ؛ والتي غالبا لا تحتاج جهدا فكريا مهما، بل نلجأ إليها خلال أوقات الفراغ أو لتفادي ضياع الوقت، والتي تمككنا من الاطلاع على معلومات أو أخبار أو متابعة تسلسل أحداث.

– قراءة من أجل توسيع قاعدة البيانات؛ والتي تثمر اطلاعا على معلومات وأفكار جديدة.

– ثم قراءة من أجل توسيع قاعدة الفهم أو ما يسمى بالقراءة التحليلية: وهي القراءة التي تتطلب جهدا والتي قصدنا بها "العمل الغير الممتع"، هذا النوع من القراءة هو الأكثر فائدة إذا ما أردنا ترتيبه في سلم الأهمية لما يتطلب من تركيز واستحضار لحس نقدي وبناء نسق ومنهج معين في التفكير وترتيب الأفكار.

بعد مرحلة الاكتشاف والقراءة في مجالات مختلفة، يأتي احتياج أكبر وهدف أسمى من القراءة وهو توسيع قاعدة الفهم و بناء منهجية تفكير وأسس تمكن ليس فقط من المكوث في وضع المتلقي، بل ترتقي بها إلى المعرفة الجيدة من خلال البحث والتدقيق في صفحات الكتاب وتسجيل الأفكار المهمة ومناقشتها وعمل روابط بين الفقرات للتمكن فيما بعد من إعادة الصياغة واكتساب ملكة تسلسل الأفكار، وفي أرقى المراحل الوصول إلى إنتاج للمعرفة.

إن قراءة كتب دسمة بهذه الطريقة الدقيقة يبدو أمرا مملا وثقيل الخطوات، خصوصا بسبب انشغالات متعلقة بواجبات اجتماعية أو متعلقة بالدراسة أو العمل، لكن الشغف إلى المعرفة لا ينضب، وما نلمسه من حلاوة ارتقاء بعد ضبط كتاب قيم نحس في نهايته أنه أضاف إلى شخصيتنا وعلمنا وربما أثر على رؤيتنا للأمور أو حتى معاملاتنا أو ربما وجهنا لنسلك مسلكا جديدا في الحياة، بعد كل ذلك يبدو الأمر مستحقا للساعات التي أمضيناها نقلب صفحاته.

undefined

إن القراءة المتأنية الممنهجة تجعل المعلومة تترسخ في الذهن، ومع التراكم بهذه الطريقة يتكون لدينا نوع من المعرفة تعزز بالبحث الموازي والقراءات المكملة، أما القراءات العابرة غالبا ما يكون تأثيرها لحظيا. كما أننا حين نقرأ ونستسهل ما نقرأ يجب مراجعة اختياراتنا وأولوياتنا، فمتى ما استصعبنا ما نقرأ روضنا عقولنا على استيعاب جديد.

صحيح أن الأمر صار أصعب حاليا مع كل الملهيات التي تحيط بنا، ومع المنتج الجاهز الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي من أخبار متناثرة مقزمة في بضعة حروف تثنيك عناء قراءة مقال أو كتاب يدرس الوضعية بشكل ممنهج أكثر، فتكون بذلك مشجعة على القراءة القصيرة ومثنية عن القراءات الطويلة. وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة جدا وإيجابياتها عديدة، لكن الأخبار المترامية هنا وهناك هي فعلا تزيد الوعي العام لكنها لا تخدم أبدا التسلسل المعرفي ولا منهجية التفكير أو التحلي،ل ولا تعين على إنتاج فكر جديد.

ثم إن العبرة ليست بكمية الكتب المقروءة بالسنة، أو ما يسمى بموضة التسابق في ختم عدد من الكتب في وقت وجيز، المعيار لم يكن أبدا كذلك، وثمن المعرفة ليس بالرخيص، فهي تتطلب مجاهدة، والسؤال الذي يجب طرحه في طرحنا هذا هو: هل نرى أنفسنا بعد سنين منتجين للمعرفة بالكيفية التي نقرأ بها الآن؟ عن أسس اختياراتنا للعناوين التي نقرأها؟ وعن طريقة تعاملنا بصفة عامة مع الكتاب؟ كل هذه وأسئلة أخرى لا تعتبر نقدا للوضع الحالي، بل تساؤلات ربما تعيننها على توجيه أحسن لنكون أمة "اقرأ" المنتجة التي فهمت معنى الكلمة فقرأت وفعلت نعمة العقل التي أهملت وابتعدت عن فعل قراءة عقيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.