شعار قسم مدونات

الثورات الاجتماعية القادمة

blogs كريستين لاغارد

في كلمتها أمام مؤتمر "صندوق النقد الدولي" الذي انعقد مؤخرا في مراكش بالمغرب، اختتمت رئيسة الصندوق الفرنسية كريستين لاغارد كلمتها بمقولة لجبران خليل جبران يقول فيها: "أولادكم ليسوا لكم. إنهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها."

 

وطيلة كلمتها ركزت رئيسة الصندوق الذي يملي سياساته على الحكومات المدينة، على الشباب في المنطقة العربية قائلة إن "هناك أكثر من 27 مليون شابا سيدخلون سوق العمل في المنطقة على مدار الخمس سنوات القادمة، وهي منطقة أصبحت بطالة الشباب فيها هي الأعلى على مستوى العالم بمتوسط 25% ."، قبل أن تضيف محذرة بأن السخط الشعبي يتأجج في عدة بلدان عربية بسبب  فقدان الأمل في المستقبل، وتدني منسوب الثقة لدى الشعوب في بلدان يرى أكثر من 60% من مواطنيها أن "العلاقات -أو الواسطة- هي التي تحدد ما إذا كان باستطاعتك العثور على عمل."، والكلام دائما للاغارد.

 

كلام لاغارد يأتي في سياق تصاعد الاحتجاجات في أكثر من دولة عربية آخرها تونس والمغرب والسودان وقبل ذلك الجزائر، أما مصر فإن القبضة الأمنية تخنق كل الاحتجاجات حتى تلك ذات الطبيعة الاجتماعية.

  

فالموجة الجديدة من الاحتجاجات ستكون ذات طبيعة اجتماعية، تختلف كثيرا عن جيل الاحتجاجات التي خرجت عام 2011 رافعة مطالب سياسية من قبيل الحرية والديمقراطية. وبالرغم من أن كلا المطلبين لم يتحققا أو تحققا بنسب متفاوتة حسب دول "الربيع العربي"، إلا أن تلك الاحتجاجات كسرت حاجز الخوف الذي كان يحول دون نزول المواطن إلى الشارع للتظاهر والاحتجاج للمطالبة بحقوقه.

 

مشكل الكثير من دول المنطقة العربية يكمن في ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة وتفشي الرشوة وهو ما يغذي مشاعر الإحباط الشديد لدى شرائح مجتمعاتها الأكثر تضررا من سوء توزيع ثرواتها

وفيما استكانت الكثير من حكومات المنطقة إلى "ثوراتها المضادة"، التي فرضت حالة السكون الحالية، جاء صندوق النقد الدولي" الذي يعد بمثابة "ترمومتر" الحكومات، لأن خبرائه يعرفون "الشادة والفادة" عن اقتصاديات الدول، ليدق ناقوس الخطر ويحذر من "تسونامي" الاحتجاجات الاجتماعية التي يتصاعد هديرها داخل أعماق المجتمعات التي تغلي في الأعماق مثل براكين نشطة.

 

واختيار المغرب لانعقاد المؤتمر الجديد لـ"صندوق النقد الدولي" تحت عنوان لافت "مواجهة مشاعر الإحباط"، يحمل أكثر من إشارة إلى حكومات وأنظمة المنطقة. فالصندوق استشعر الخطر في أكثر من بلد عربي، وهو خطر لم يعد خافيا؛ ويعبر عنه تصاعد التوترات الاجتماعية والمظاهرات الاحتجاجية خلال الفترة الأخيرة في عدد من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

  

هذا التصاعد في التوترات والاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها أكثر من دولة عربية، تنم عن حالة الاحتقان الاجتماعي التي تعيشها تلك البلدان بسبب تأخر تحقق تطلعات شعوبها وتحقيق العدالة والاجتماعية التي خرجت نفس الشعوب تطالب بها أثناء موجات "الربيع العربي" قبل سبع سنوات ونيف. لقد نجحت الكثير من حكومات المنطقة وأنظمتها  في  قمع ثورات شعوبها أو إجهاضها أو الالتفاف حول مطالبها، لكنها لم تنجح في الاستجابة لتلك المطالب التي ظلت مؤجلة، وهو ما ولد مزيدا من الإحباط والشعور بالسخط داخل الأوساط الأكثر هشاشة.

 

وأمام هذه التوترات والاحتجاجات يأتي "صندوق النقد الدولي" لتقديم نفس وصفاته الجاهزة التي أدت طيلة العقود الماضية إلى اضطرابات اجتماعية أزهقت بسببها عدة أراوح بريئة، ولم ينتج عنها أي بديل يخرج تلك الدول من أزماتها الدائمة، والدليل أن نفس الصندوق مازال يقدم نفسه كـ"مبشر" للحكومات والدول بآفاق رحبة يراها هو قريبة ولا تجد لها الشعوب المتعبة طريقا.

 

والوصفة الجاهزة التي يقترحها الصندوق تتمثل في كلمة "الإصلاحات" التي يقدمها خبرائه دائما كمفتاح لمعالجة كل المشكلات العويصة التي تثقل كاهل بلدان وشعوب كثيرة.  

 

فما يقترحه اليوم "صندوق النقد الدولي" على الكثير من الحكومات في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط هو مزيد من التخلي عن النموذج القائم على رعاية الدولة للمصالح الاجتماعية لمواطنيها. وهذا الاقتراح أتبث عبر تجارب سابقة عن فشله، بل إنه ساهم في تأزم الأوضاع أكثر داخل البلدان التي دخلت بسبب تطبيقه في دوامة من الاضطرابات والأزمات الاجتماعية التي لا تنتهي، بل إنها أصبحت تتفاقم وتتعقد سنة بعد أخرى وعقدا بعد عقد.

 

لا يعني هذا أن النماذج السابقة التي نهجتها هذه الدول كانت ناجحة وإلا لما كانت احتاجت إلى خدمات ونصائح ووصاية "صندوق النقد الدولي"، وإنما المشكل يكمن في تشخيص الداء وفي وصفة الدواء. ففشل نموذج رعاية الدولة للمصالح الاجتماعية لرعاياها لا يعود إلى النموذج نفسه الذي نجح في دول متقدمة مثل الدول الإسكندينافية، وإنما إلى آليات تطبيق ذلك النموذج، أي إلى الحكومات والأنظمة التي ترعاه، وأغلبها -إن لم نقل جلها غير- منتخبة ديمقراطيا وتفتقد إلى الشفافية وينخرها الفساد الذي ترعاه وتحميه.

 

تغييب إرادة الشعوب هو الذي يؤدي إلى فرض وصايات عليها بواسطة أدوات فاسدة ترعى وتحمي الفساد؛ اسمها
تغييب إرادة الشعوب هو الذي يؤدي إلى فرض وصايات عليها بواسطة أدوات فاسدة ترعى وتحمي الفساد؛ اسمها "حكومات" و"أنظمة"
 

ففي كل تجارب الدول التي انتقلت بشعوبها إلى مصاف الدول المتقدمة انطلقت من تحسين الخدمات التي تقدمها الدولة لرعاياها، وعلى رأس هذه الخدمات الصحة والتعليم. وعندما بدأت الحكومات تتراجع أو تتخلى -بتوصيات من نفس الصندوق- عن تمويل البرامج الاجتماعية الموجهة لمحدودي الدخل من مواطنيها وضخ الاستثمارات الضرورية في البنية التحتية الموجهة إلى خدمة المواطن، تفاقم العجز على جميع المستويات، وتضاعف الخصاص، وازدادت الأوضاع صعوبة والاحتقان شدة.

 

مشكل الكثير من دول المنطقة العربية يكمن في ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة وتفشي الرشوة وهو ما يغذي مشاعر الإحباط الشديد لدى شرائح مجتمعاتها الأكثر تضررا من سوء توزيع ثرواتها. والحل لا يكمن فقط في الوصفات التقنية والتوازنات الماكرو اقتصادية التي يقترحها "صندوق النقد الدولي" صاحب "السوابق" الكارثية على أكثر من دولة استمعت إلى نصائحه فوجدت نفسها تحت وصايته.

 

الحل يبدأ بما هو جوهري، أي من إصلاح الحكومات والأنظمة، وهذه يجب أن تكون ممثلة لإرادة شعوبها، فتغييب إرادة الشعوب هو الذي يؤدي إلى فرض وصايات عليها بواسطة أدوات فاسدة ترعى وتحمي الفساد؛ اسمها "حكومات" و"أنظمة". ومثل هذه الإصلاحات لا تحتاج إلى خبراء صندوق النقد الدولي ونصائحهم، وإنما إلى الإنصات إلى نبض الشارع والاستجابة إلى إرادة شعوبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.