ولعلّ هذه الإشكالية تُقارب الإشكالية التي أرّقت الفيلسوف شيلر، حين أراد العودة إلى سياسة الذات، فعكف في (الرسائل الأولى من التربية الجمالية للإنسان) على فكرة الدولة كما كانت تتشكل في زمانه. حيث كان شيلر روسي الطبع كانطي التطبّع، فكتب قائلاً حين رأى انهيار القيم الإنسانية على أعتاب الفظائع الدموية الوحشية: "لا يأتي البناء من السياسي ولا من رجل الدين، ولكن من القدرة على الارتفاع نحو الروح والجمال، فعندما يضع السياسي أو رجل الدين نفسه في الواجهة على سبيل الشهرة والنجومية، فهو يضع نفسه في الخلف باستخدامه لوسائل الإكراه، القهر، الابتزاز والترهيب، بيد أنه عليه ألا يقود بل أن يصاحب، ولا يقول هؤلاء تحت وصايتي، بل يقول هؤلاء بجانبي، فلا يتكلم بمنطق الفَوقية بل بمنطق المَعِيّة".
وكأنّ الفيلسوف شيلر يقول، إنّ الذي يعجز عن تسييس ذاته، هو عن تسييس دولته أَعجَز، وكأنه أيضًا وهو ينتظر نضوج فلسفته الى هذا العصر ينظر. فالولايات المتحدة الأمريكية التي أسّست أسس الفلسفة البراغماتية السياسية، عرّفت الحقيقة بأنّها الفكرة التي تنجح، وليست الفكرة ذات القيمة الأخلاقية، فصار التخطيط لسرقة أموال الفقراء، هو أنجح وسيلة للثراء، والظلم، القهر والاستبداد، هو أنجح وسيلة لتحقيق السلطة. فالعالم مجرّد سوق، والإنسان فيه مجرّد أداة للإنتاج أو الاستهلاك فقط، ولذلك فقد ركبت الكثير من الدول الإسلامية رغم ثقلها العقدي في المنطقة العربية، موجة البراغماتية، وعلّقت دواليب الحكم بتلابيب أمريكا وإسرائيل وغيرها، كالمملكة العربية السعودية. مما جعلها تربة خصبة للابتزازات المالية، التي تثري خزائن النظام الدولي، ليستمر في طغيانه وإجرامه.
لم تعد هناك دول ترغب في التضحية بمصالحها السياسية والاقتصادية، فصرنا نتخبط في مأزق أعظم من الأنظمة الاستبدادية، وهو مأزق النظام الدولي العاري من القيم الأخلاقية. |
فلم تعد هناك دول ترغب في التضحية بمصالحها السياسية والاقتصادية، فصرنا نتخبط في مأزق أعظم من الأنظمة الاستبدادية، وهو مأزق النظام الدولي العاري من القيم الأخلاقية. ذاك النظام الذي يُقيم احتفالية مئوية بحرب عالمية دموية، هو نظام تجاوز اللاإنسانية إلى الوحشية، والنظام الدولي الذي يهيئ المجرم ليكون هو القاضي كما حدث في الأزمة السورية. أين صوّتت روسيا في الأمم المتحدة ضد أعمالها الإجرامية بحق المدنيين السوريين؟
هو نظام شريك بالإجرام، والنظام الذي يقيم توازناته السياسية بإفقاد العالم توازناته الإنسانية، نظام لا يحتاج فقط إلى تقويم بل إلى تقويض، فالاتحاد السوفياتي قد وضع قبل انهياره خطة تخريب الدول، والتي لاتزال آثارها إلى اليوم. وذلك من خلال وضعه لوسائل فكرية وأخرى بنيوية للتخريب، كتسييس الدين، التشويه للقدوات المؤثرة، الاشتغال بالقضايا التي لا قيمة لها، والقدوات والبطولات التافهة. كما وضع قوانين تشريعية غير أخلاقية، تجعل من القيم الأخلاقية مجرّد أعراف، لا ينبغي الاعتراف بها، وأفكار قديمة لا تحمل أي قيمة.
وأمام كل ذلك فكل شيء في حياة الإنسان قابل للتغيير، إذا أراد الإنسان التغيير، كما قال الفيلسوف الأمريكي جون ديوي. وذلك مثلاً بهدم كل محاريب التخريب، بدايةً من الهيئات الدولية الزائفة كالأمم المتحدة، واستبدالها بهيئة دولية أخلاقية، تضم جميع شعوب العالم، وفي كل دولة قطرية، تنصيب وزارة الأخلاق، بدل وزارة السعادة، التي لا تحقق السعادة إلا لأصحاب السعادة. فكما قال الفيلسوف أودغار موران: "إنّ تقاسُم الغايات البراغماتية نفسها، معناه ضمور العالم".
ولا ينبغي أن نجعل من الأحلام أنشودة خلاص، بل لنعمل بإخلاص كي نفكّر كما قال الفيلسوف باسكال، ولنعد لهذه البشرية العدة، بأن نجعل هذا العالم قابلاً للتقاسم، بدل الانقسام، ولنكن للبشرية الأمة، التي تستحق أن بُعث إليها سيد الخَلق عليه الصلاة والسلام، مُتمِّمًا للأخلاق؟ فنكون أمةَ القيادة، ونرسُم خطَّ الصّراط المستقيم، الذي لا انحناء فيه إلا لِمنحَى السّيادة، حيث غايتنا سوِيَّة، وصفوفنا مُستوية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.