شعار قسم مدونات

قراءة فى رواية "صحراء التتار" لـ "دينو بوتزاتى"

blogs رواية صحراء التتار

تراجيديا يسير جيوفاني دروجو بعد أن أتم دراسته في الكلية الحربية وعاش أجمل سنين عمره وإن ضايقته بعض الواجبات؛ حيث يتوجب عليه الآن أن يلتحق بإحدى القلاع النائية والتي تحيط بها الصحراء من كل مكان، إلا أن دروجو أحس أن شبح العزلة يحيط بل ويسكنه في أعماقه، فهو الآن سيبتعد عن تلك المدينة وهذا البيت العتيق الذي يعيش فيه مع أمه والذي عرف فيه معنى الأمل، وأنه مقبل على مرحلة ستضيق بها نفسه ويأسف على ما مر به من مراحل عمره.

ما أن ألقى جيوفاني دروجو برجاله في القلعة؛ حيث التقى بالقومندان (ماتي) وهو قائد يظهر لنا في بداية الرواية رجلاً طيباً مخلصاً، وذلك من خلال الحوار الذي دار بينه وبين جيوفاني دروجو؛ حيث أبدى القومندان ماتي لدروجو بأنه من الممكن أن يرحل في هذه الساعة إلى مدينته التي أتى منها وأنه ليس عليه حرج في ذلك؛ حيث إنه ليس في القلعة ما يثير الانتباه، لكن في نفس اللحظة حاول ماتي وفي شيء من الخبث لم يظهر في ثنايا الحوار أن يغري دروجو بالجلوس في هذا المكان المعزول عن المدينة وعن الحياة البشرية، وأنه لن يفقد الكثير إذا استمر بالقلعة لمدة أربعة أشهر قادمة، خصوصاً إذا كانت إجراءات الرحيل قبل الأربعة أشهر ستكون صعبة وفيها بعض التحايل على القانون (وكأن ماتي في تفرسه لوجه دروجو أدرك أنه لا يحب التحايل على القانون)، وبانقضاء الأربعة أشهر على دروجو أن يقرر البقاء أو الرحيل؛ حيث ستكون إجراءات الرحيل سهلة ومطابقة للقانون، وبالفعل قرر دروجو خلال الحوار أنه سيبدأ عمله في القلعة هذه المدة وما أن تنقضي حتى يتم أوراق رجوعه إلى القلعة.

انقضت الأربعة أشهر وعلى دروجو الآن أن يقوم بفحص طبي لإنهاء عمله في القلعة، لكن (دينو بوتزاتي) يفاجئنا بشيء من الاضطراب بأن دروجو قرر البقاء في عمله وأنه لن يغادر القلعة؛ فبعد حالة الملل والعزلة غير المفيدة التي عاشها دروجو في القلعة، وبعد حياة القلق حتى من صوت خرير الماء في أحد الصهاريج، بعد هذا كله يفاجئنا بوتزاتي بقرار دروجو معتمداً على تأويلات غير مقنعة؛ حيث جعل سبب البقاء مجموعة من العادات التي ألفها دروجو، فالزهو العسكري، والألفة العائلية، ونوبة الحراسة، وجلسات الأصدقاء.

ما أن يعمل الناس أعمالاً ضئيلة في أماكن لا تظهر فيها مقوماتهم الشخصية وملكاتهم النفسية؛ فيبدأ كل منهم يبدأ بشيء يصنعه وعيهم اللاشعوري أو مخيلتهم التي أصابها المرض جرَّاء هذه العزلة على أنهم مميزون وذوو وجاهة اجتماعية

ثم يفرط في ذكر عادات أخرى كالحانة التي يختلف إليها وضحكات النساء بها ومغازلتهن إياه، وكذلك غرفة نومه وأشعة الشمس حتى بعض السحالي التي اعتاد دروجو أن يراها، وغير ذلك من عادات لا يمكن إذا تصادمت مع مستقبله أن تبقى راسخة أمام بحثه عن سعادته، وضيق صدره بهذه العزلة التي لا جدوى من ورائها. إن مدة أربعة أشهر لن تكون كافية لرسوخ هذه العادات في قلب دروجو لدرجة أنه أصبح يحب ممارستها ولا يستطيع أن يدعها. إن شيئاً ما لم يستطع بوتزاتي أن يصل إليه جعل دروجو يقرر البقاء، أو ربما علم بوتزاتي وأراد أن يضع قارئه في هذه الحيرة الشديدة من مصير مستقبل دروجو.

 
لقد صوَّر بوتزاتي حياة رجال القلعة من قادة وجنود بذكاء شديد وبتعبير روائي يستطيع أن ينفذ إلى عمق نفوس شخصياته التي يصنعها؛ حيث يعيش كل هؤلاء على أن قلعتهم يُنظر إليها على أنها الحصن الأمين ضد أيّ عدو قادم من الشمال، يعيشون على أمل أن يلتقوا بهؤلاء التتار القادمين من صحراء الشمال، وهم في قرارة ضميرهم يوقنون بأنه لا ثمة لغزو سوف يأتي من الشمال، وأنهم لن يموتوا هذه الميتة التي يتشوقون إليها، ولكن عيشهم الطويل بهذه القلعة البائسة جعلهم يحيون الخيال على أشده (فمن أجل هذا الاحتمال الغامض الذي يصبح مع مرور الوقت غير موثوق فيه، يُفني الرجال هنا أفضل سني حياتهم).
 
إن مَن بالقلعة يدور الحديث بينهم دائماً على أنه مجرد وقت قصير سوف يقضيه الشخص ثم يرحل، هذا بدا واضحاً في حوار دروجو مع (بروز دوشيمو) المشرف على الحياكة في القلعة؛ حيث قال لدروجو: إنني لا أعمل هنا إلا بصفة مؤقتة، وما أن قال كلمته حتى سخر معاونوه منه بضحكات ملأت المكان؛ حيث تبين بعد ذلك أنه يعمل بالقلعة من خمسة عشر عاماً ككثيرين غيره، ومع ذلك دائماً ما يثرثر هو وغيره بهذه الكلمات.

هذه الحالة التي حاول بوتزاتي أن يوضحها دائماً ما تظهر في المجتمعات بصفة مستمرة، فما أن يعمل الناس أعمالاً ضئيلة في أماكن لا تظهر فيها مقوماتهم الشخصية وملكاتهم النفسية؛ فيبدأ كل منهم يبدأ بشيء يصنعه وعيهم اللاشعوري أو مخيلتهم التي أصابها المرض جرَّاء هذه العزلة على أنهم مميزون وذوو وجاهة اجتماعية، وفي الوقت نفسه يدور الكلام بينهم على أنهم لا محالة سيغادرون هذا المكان، فما هي إلا مسألة وقت، وإن كانت ضمائرهم موقنة بأن الموت هو الشيء الوحيد الذي سيعزلهم عن هذا المكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.