شعار قسم مدونات

صوت غناء المرأة في إعلامنا الملتزم!

blogs ميس شلش

هذا المقال يا سادة ليس نقاشاً شرعياً في حكم غناء المرأة، فهذا ميدان لا أحمل مؤهّلات الخوض فيه، لكنه عرض لإشكالية من تجربة شخصية بحكم عملي في إدارة مؤسسة إعلامية تلتزم الضوابط الشرعية، تكشف تخبّطاً نعيشه نحن الإسلاميين في أحكامنا على الفنون عموماً، وتحديداً أتحدث هنا عن صوت المرأة في الغناء.

  

نعلم أن جمهور العلماء حرّم سماع الرجل غناء المرأة، لاعتبار أنه "باب من أبواب الفتنة ويحرك الغرائز و…". نتذكر في مرحلة الانتفاضة الفلسطينية، حين برز اسم "ميس شلش" (11 سنة) التي وقفت تغنّي لفلسطين والانتفاضة بصوتها الهادر الرصين، ولاقت أناشيدها استحساناً كبيراً من "الجمهور الإسلامي"، وحينها كانت الرخصة لسماع صوت غنائها، أن "ميس طفلة ولا يسري عليها حكم تحريم الغناء". وأصدرت ميس بعدها إصدارات عديدة، وحازت عدداً من الجوائز. واستمرت رخصة الاستثناء الشرعي لـ "الطفلة ميس"، فنسمع أناشيدها (الرائعة) ونبثها عبر إعلامنا، دون تأنيب ضمير في تجاوز حكم شرعي.

 

الطريف في الموضوع أمران:

1- علّة رخصة سماعها قد انتفت، فالطفلة ميس كبرت وتزوجت ولربما أنجبت أطفالاً – أسعدها الله – لكننا نستمع لأناشيدها، وكأن الزمن توقف عند عمرها الصغير.

 

2- أن رخصة الاستثناء انحصرت بميس شلش فقط، لاعتبارات قد تكون حركية من حيث لا نشعر، فلم يجر إسقاط الحكم الخاص على غيرها من الفنانات. فإذا كان لهذا الاستثناء مبررات مقنعة، فالساحة الفنية الفلسطينية والعربية عرفت نماذج عديدة تشابه ميس في المواصفات، من حيث رصانة المحتوى واتزان الصوت والأداء.

 

فتجد الفنانة الفلسطينية الراحلة ريم البنا التي اشتهرت بأغانيها الوطنية وقدمت التراث الفلسطيني للعالم، وعرفت بمساهمتها الكبيرة في الحفاظ على الكثير من الأغاني التراثية ولا سيما أغاني الأطفال:

 

لاطلع على راس الجبل واخد معي مفتاح

وافتح جنينة ابي واقعد فيها وارتاح

يا ربي زخّة مطر تروي شجر التفاح

لطلع على راس الجبل واشرف على الوادي

واقول يا مرحبا نسّم هوا بلادي

 

نحتاج في أدائنا الدعوي – ومنه الإعلامي – أن نخالط الناس ونخاطبهم بثقافة تشبههم، طبعاً بما لا يخالف الشريعة، فإن كان ثمة مصلحة دعوية عامة في اعتماد الرخصة في الأحكام.. أليس في ذلك خير؟

نموذج آخر، لفنّ نسائي غنائي قد تنطبق هذه المواصفات على بعض أعماله. الفنانة اللبنانية فيروز. فلنقرأ هذه الكلمات، وأرجو من القارئ أن يفتح "اليوتيوب" ويستمع لهذه الأغنية، وأترك له أن يحكم، هل فيها ما "يحرك الغرائز ويوقع في الفتنة":

 

لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي

لأجلك يا بهيّة المساكن.. يا زهرة المدائن

يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي

عيوننا إليك ترحل كل يوم

تعانق الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجد

 

ومن منا لم تهدهده أمه حين كان طفلاً بتلك الأغنية الشعبية لفيروز، وحين يسمعها الآن يهزّه الحنين إلى أيام طفولته:

 

تك تك تك يا امّ سليمان.. تك تك تك جوزك وين كان؟

تك تك تك كان بالحقلة.. عم يقطف خوخ ورمّان

يا ستّي يا ستّ بدور.. شوفي القمر كيف بيدور

 

أيضاً أترك للمستمع والمستمعة أن يحكما في هذا النموذج.. هل تنطبق عليه علّة الفتنة؟

 

التراث الشعبي

وأنتقل إلى نقطة جوهرية، هي حاجة المشاريع التحررية لإحياء التراث الشعبي (فنون – ملابس – أدب – لهجة…)، من باب ربط اللاجئين بجذورهم وأرضهم التي شرّدوا منها، كرابط وجداني وثقافي يؤكد على تمسّكهم بوطنهم. والفنون الشعبية هي من أكثر ما يربط وجدان اللاجئ أو المغترب ببلده المبعد عنه. ونلاحظ اهتمام قوى التحرر (حتى الملتزمة دينياً) بتنظيم فعاليات شعبية تراثية للاجئين أو النازحين من باب الحفاظ على هذا الرابط الوجداني مع الأرض، ونلاحظ مدى تأثر الحاضرين بتلك الفنون، من غناء أو غيره.

 

علينا أن نعيَ أن الخطاب الدعوي للمشروع الإسلامي ما عاد موجهاً فقط بفئة من الأنصار الملتزمين، لكنه نجح أن يلامس عموم الجمهور، والقضايا التي يحملها الإسلاميون قضايا شعبية عامة.. ما يتطلب مزيداً من المرونة في التعاطي مع الفنون، ذات التأثير الكبير في الجمهور العام. أعود وأؤكد أنني أتحدث من منطلق إعلامي ودعوي، لا فقهيّ. وأختم بفتوى أحد كبار العلماء المعاصرين الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، الذي ذهب إلى جواز سماع الرجال الأجانب لغناء المرأة بالشروط التالية:

1- سلامة مضمون الأغنية من المخالفة الشرعية، بأن يكون موضوعها متفقاً مع تعاليم الإسلام.

 

2- سلامة طريقة الغناء من التكسّر والإغراء، بأن يكون خالياً من تعمّد الإثارة وإيقاظ الغرائز وإغراء القلوب المريضة.

 

3- عدم اقتران الغناء بمحرّمٍ كشرب الخمر، وألا يكون مترافقاً مع أنغام الموسيقى المثيرة للغرائز المحرّمة (كموسيقى الروك والراب).

 

4- تجنّب الإسراف في السماع.

 

نحتاج في أدائنا الدعوي – ومنه الإعلامي – أن نخالط الناس ونخاطبهم بثقافة تشبههم، طبعاً بما لا يخالف الشريعة، فإن كان ثمة مصلحة دعوية عامة في اعتماد الرخصة في الأحكام.. أليس في ذلك خير؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.