شعار قسم مدونات

خُلق الإمام أبي حنفية النعمان وأدبه

مدونات - أبي حنيفة

إن تلك الحقبة الزمنية التي عاشها أئمتنا العظام في القرن الأول والثاني الهجري لحريٌ بكل طالب علم أن يطلع عليها ويستفيد مما جرى فيها من أحداث مُشرّفة ومُشرقة، رجال فهموا الإسلام وعاشوه واقعاً في حياتهم. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".

عاش الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت في تلك القرون المباركة، وقد عشت معه ووضعت نفسي في ذلك القرن، فوجدت شعوراً رائعاً في حياتي مع الإمام؛ وهذا من فضائل القراءة أنها تأخذك إلى أزمان أنت بعيدٌ عنها وتُعرّفك بأماكن لا تعرفها ولم تطأها قدمك. خاصةً إذا كان المؤلف من البارعين والمبدعين في التأليف وسرد السيرة ووصفها وصفاً دقيقاً. وأنا أنصح بالعيش مع العظماء دائماً وذلك من خلال قراءة سيرهم فنعيش همومهم، وأفراحهم، ونتجول في أفكارهم وعقولهم.

بعض الناس يعرف الإمام أبو حنيفة على أنه فقيه يستنبط الأحكام ويفتي فقط، وهـكـذا عُرف – رحمه الله – لكن من الأهمية بمكان أن ننظر إلى الجانب الآخر من حياته الذي يدل على عمق في التفكير وسعة معرفة الإسلام ومعرفة الله

سيرة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان – رحمه الله – نبراساً لكل طالب علم، وكل إنسانٍ يريد الخير للناس وللأمة عـامة. هذه السيرة العطرة نجد فيها قواعد وأسس استنبطها واستمدها الإمام من الإسلام العظيم. نجد أيضاً الادب، والرقي، والجمال، وحُسن التعامل، قلَّ ما نجد ذلك عند طلاب العلم اليوم! ونراه رحمه الله يُقدّر أساتذته وينزلهم منازل كبيرة من غير تسليم لهم ولا تقليد أعمى. كان لا يمد رجليه أمام بيت أستاذه حمّاد بن أبي سليمان – رحمه الله – مع أن بينه وبين بيت أستاذه سبع سكك احتراماً لـه. يقول أبو حنيفة: ما صليت صلاة منذ مات حمّاد إلا استغفرت له مع والدي. فقبل أن يركزوا طلاب العلم على الاستزادة من العلم، عليهم التزام الأدب وتقدير أساتذتهم (من غير ذل ولا خضوع ولا تسليم كامل).

أدب أبي حنيفة مع المخالف

كلما زاد الطالب علماً زاد إعذاراً للمخالف وقل إنكاره، عكس الذي يقرأ – مثلا ً- كتاب أو كتابين فتراه يتطاول ويتفلسف على كبار العلماء ويُخطئهم، وقد لا يعرف مبادئ عامة عن الإسلام. وقد قضى الإمام أبو حنيفة زمناً يجادل ويناظر، وكان بعد ذلك ينهى أصحابه والمقربين إليه عن الجدل. رأى – رحمه الله – ولده حماداً – الذي أصبح فيما بعد قاضياً فاضلاً وعابداً ورعاً – يناظر في الكلام فنهاه.. فقال حماد: رأيناك تناظر فيه وتنهانا عنه؟

فقال رحمه الله تعالى: كنا نناظر، وكأن على رؤسنا الطير، مخافة أن يزل صاحبنا (أي نجادل ونحن نتمنى ألا يُخطئ أو ينحرف خصمنا) وأنتم تناظرون وتريدون زلة صاحبكم! ومن أراد أن يزل صاحبه فقد أراد أن يكفر ومن أراد أن يكفر صاحبه، فقد كفر قبل أن يكفر صاحبه. هكذا كان رحمه الله يُعلم أصحابه ويُعلمنا معهم كيف نناظر، وأن يكون هدفنا الوصول إلى الحق وليس زلة الخصم.

أخلاق الإمام الأعظم

بعض الناس يعرف الإمام أبو حنيفة على أنه فقيه يستنبط الأحكام ويفتي فقط، وهـكـذا عُرف – رحمه الله – لكن من الأهمية بمكان أن ننظر إلى الجانب الآخر من حياته الذي يدل على عمق في التفكير وسعة معرفة الإسلام ومعرفة الله – سبحانه وتعالى. والأخلاق من ثمرات الإيمان، وكانت أخلاق أبي حنيفة هي أخلاق الصالحين وكان شديد الخوف من الله تعالى، شديد الورع، مجتهداً في العبادة، دائم التفكر، طويل الصمت. قال مسعر بن كدام: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فوطئ على رجل صبي لم يره، فقال الصبي لأبي حنيفة يا شيخ: ألا تخاف القصاص يوم القيامة؟ فغشي على أبي حنيفة فأقمت عليه حتى أفاق فقلت له: يا أبا حنيفة ما أشد ما أخذ قلبك قول هذا الصبي! فقال: أخاف أنه لُقّن.

وكان – رحمه الله – يكتم غضبه إلى درجة قد تفوق تصوراتنا أحياناً. قال عبد الرزاق: ما رأيت أحداً أحلم من أبي حنيفة، كنا جلوساً معه في مسجد الخيف، فسأله رجل عن مسألة فأفتاه فقال الرجل: قال الحسن البصري كذا وكذا فقال أبو حنيفة: أخطأ الحسن، فجاء رجل أحمر الوجه فقال: يا ابن الفاعلة (الزانية) تقول أخطأ الحسن؟! فهمَّ الناس به فقال أبو حنيفة: أقول أخطأ الحسن وأصاب ابن مسعود. (هكذا بكل بساطة دون أن يغضب أو يزيد الأمر اشتعالاً).

في يومنا هذا نسي الكثير من طلاب العلم أن هذه الأخلاق وهذه الآداب، أصبحنا نهتم بحفظ المتون وأهملنا أعــظم ما جاء به الاسلام وهو: الأخلاق. يقول أحد طلاب الإمام مالك: صحبت الإمام مالك 20 عاماً فتعلمت منه العلم في سنه وتعلمت الأدب في 19 سنة ثم يكمل ويقول: ويا ليتها كانت كلها في الأدب. وأنصح طلاب العلم بالحرص عند الأخذ من العلماء بالتركيز على الأدب أكثر من تركيزهم على العلم.

انطلقت ألسنة العلماء بعد وفاة أبي حنيفة بالثناء عليه، حيث قال عنه الفضيل بن عياض:
انطلقت ألسنة العلماء بعد وفاة أبي حنيفة بالثناء عليه، حيث قال عنه الفضيل بن عياض: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال، معروفاً بالأفاضل على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام ..
الإمام وتلاميذه القياديين

جعل أبو حنيفة من تلاميذه علماء مجتهدين ومناظرين، وأخرج للأمة علماء حملوا مذهبه من بعده وأشرقت الأرض بعلمهم. وقد كان الإمام ذو سعة في المال، فقد كان تاجراً في الخز (قماش يدخله الحرير) فكان غنياً، واستخدم هذا الغنى في إعانة طلابه فكان يزوج من أراد منهم أن يتزوج وينفق عليه وعلى عياله. وقد اهتم الإمام بتلاميذه اهتماماً بالغاً حتى أنه كان يقول لهم: أنتم مسار قلبي وجلاء حزني. وكان من أشهر تلاميذه الذين أصبحوا فيما بعد من أعظم العلماء:

1- ابو يوسف يعقوب: كان فقيراً فأعطاه أبو حنيفة وكفاه مؤنته، فأصبح في زمن الرشيد بمرتبة قاضي القضاة.
2- زُفر من الهذيل
3-محمد بن الحسن الشيباني

هؤلاء هم أشهر تلاميذ الامام أبي حنيفة وهناك تلامذة آخرون لكن نكتفي بهؤلاء؛ لأن المقام لا يتسع لذكرهم.

كلام بعض العلماء عن هذا الإمام الجليل

انطلقت ألسنة العلماء بعد وفاة أبي حنيفة بالثناء عليه في دينه، وأمانته، وفقهه، وكرمه، وعبادته. وأحببت أن أذكر بعض تلك الأقوال. حيث قال عنه الفضيل بن عياض: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال، معروفاً بالأفاضل على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هارباً من مال السلطان". أما عن شعبة بن الحجاج، فقد قال – عندما بلغ موته: "طفي على الكوفة نور العلم، أما إنهم لا يرون مثله أبدا"ً. جعلنا الله وإياكم ممن يتبعون أنبياء الله نجوم الهدى، وعلماء الأمة الذين حملوا هذا الدين بكل صدق وأمانة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.