شعار قسم مدونات

العرب في تركيا.. ضيوفٌ لا لاجئين

blogs تركيا

في ظل الظروف الخاصة التي يعيشها الشرق الأوسط يضطر كثير من الناس لمغادرة بلادهم مُكرهين، وفي بعض الأحيان مُختارين، فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاجر مكة مُكرهًا وترك أهله ومدينته التي يحبها كثيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أن أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ".

في تركيا التي استَقْبَلت العديد من المهاجرين نَجِدُ سروراً كبيراً لاختيارهم بلدنا، وشخصياً أشعر بالفخر حينما أجد تعاطف أبناء بلدي تجاه إخواننا المهاجرين، فنحن أبناء أمة واحدة ولنا تاريخ مشترك على هذه الأرض. ويمتزج هذا الشعور بشعور الألم مما عانًوْهُ، مما تسبب في تركهم لبلادهم مكرهين أو باختيارهم. لن أتناول في مقالي أسباب الهجرة وآلام المهاجرين، بل سأتحدث عن الجانب المضيء في وجودهم بيننا. وبصورة خاصة ما استفدناه منهم في مجال تعلم اللغة العربية والعلوم الشرعية، خصوصاً وأن كثيراً منهم من أصحاب الدرجات العلمية الرفيعة.

في جامعة أديامان التركية، قسم اللغة العربية، نَتَلَقى محاضراتنا على أيدي أساتذة عرب، يتفانون في منحنا العلم، لذا ما كان لي أن أتقن اللغة العربية دون جهدهم المشكور، ولا أن أعيَ ثقافة العرب لولاهم – بعد فضل الله ومنته علينا بوجودهم بيننا- فالمنطقة العربية هي عمقنا الإسلامي والتاريخي الذي نعتز به. والأهم من كل ما سبق أننا فهمنا العلوم الشرعية وقراءة القرآن الكريم، بصورة لم نكن نتوقعها، هذا وأنا أتحدث بلساني ولسان زملائي الأتراك. وقد أيقنت أن ذلك التفاني في مرَّدُّه لتلك المبادئ التي يحملها أساتذتنا العرب، النابعة من فكرة شرعية، وهي وجوب تعلم العربية للوصول إلى فهم القرآن الكريم وعلوم الشريعة.

من الجميل أن يترك الإنسان أثرًا في المكان الذي ينزل فيه، وأرقى الأثر هو عِلمٌ يُنتفع به، وللعلم الشرعي الذي يستند على اللغة العربية خصوصية.

وأضيف، أن التأثير الإيجابي لم يقتصر على العمل الأكاديمي في الجامعات فقط، بل تعداه إلى المدارس الشرعية، مما أنتج شباباً واعياً لتاريخه ومعتقداته الإسلامية، وهذا ما سيبني جيلاً قوياً يواجه الأزمات التي تعصف بنا وتهدد كياننا ذو الأصول الإسلامية. وهذا يدل على وعي النظام التركي بأهمية استقبال العرب، ليس فقط بسبب الجوانب الإنسانية العاطفية بل لأهداف استراتيجية طويلة ومنافع مُحققة. ولا بدَّ من الإشارة أيضًا إلى اتساع تأثيرهم في الحياة التركية ضمن جوانبها الثقافية، فقد عززوا المكتبة التركية بكثيرٍ من الكتب التي تهتم بطرائق تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها  – على سبيل المثال لا الحصر- وقدموا أيضًا كثيرًا من الأبحاث التي أغنت المجلات الأكاديمية، بل المشاركة في المؤتمرات العلمية التي أضافت لمسات ثقافية وعلمية لم نعهدها في السابق.

من الجميل أن يترك الإنسان أثرًا في المكان الذي ينزل فيه، وأرقى الأثر هو عِلمٌ يُنتفع به، وللعلم الشرعي الذي يستند على اللغة العربية خصوصية، لما لذلك من خصوصية في إتقان القرآن الكريم قراءةً وفهمًا وحفظًا وتطبيقًا، وهذا ما وجدناه من ضيوفنا العرب، فقد تركوا جميل الأثر من علمٍ وسمعةٍ طيبةٍ. ورد جميلهم، وجميل عملهم يفوق قدرتنا على تحقيقه، إلا أننا نُخلص في الدعاء لهم، ونجتهد في تطبيق ما تحصلنا عليه منهم، إكراماً لهم.

إذن، فالانعكاسات الإيجابية لوجود إخواننا العرب بيننا كثيرة، ولو أن آخرين كتبوا يمدحونهم لوجدنا الأثر بارزاً في الصناعة والتجارة وغيرها من المجالات الحياتية. وواجبنا التقدير والثناء، وعلى الله القبول والجزاء بالخير فهو القائل في كتابه الكريم: "فَعَسَى أن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا" وأختم مقالتي بما قاله الشاعر دعبل الخزاعي:

وإِني لَعَبْدُ الضَّيْفِ مِنْ غيرِ ذِلَّةٍ .. وما فيَّ إِلاّ تِلْكَ مِن شِيمَة ٍ العَبْدِ 

وقول آخر

والضيف أكرمه فإنَّ مبيته حقٌ .. ولا تك لعنة للنزل

واعلم بأن الضيف مخبر أهله .. بمبيت ليلته وإن لم يسأل

وأحب أن أقول لأساتذتي وأخوتي من الطلاب: أنتم لستم غرباء في تركيا أنتم إخوتنا في الدِّين وبلدنا بلدكم، نتمنى من الله أن تعودوا إلى بلادكم وقد زالت عنها الحروب، وسندعو لكم بالتوفيق، وأن نزوركم في بلادكم ونتعلم العربية أكثر فأكثر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.