شعار قسم مدونات

لغة التصعيد التركي تعيد ملف خاشقجي للواجهة

blogs خاشقجي

بثقة واقتدار؛ صعدّت تركيا من لهجتها بعد إصدارها مذكرة اعتقال دولية بحق المتهمين السعوديين في مقتل مواطنهم الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول قبل نحو أكثر من شهرين. لغة التصعيّد التركي تناغمت مع القيم التي تحكم سياسة تركيا بعيدا عن سياسة التهويش مع الرياض، سواء على الصعيد السياسي أو الإعلامي، وبقيت أنقرة محافظة على اتزان سياستها وإعلامها عبر تسريبات تركية تمتلك من خلالها أدلة دامغة في التخطيط والتنفيذ الوحشي لجريمة مقتل خاشقجي حتى قبل اعتراف الرياض في وقوع الجريمة و"تجزئة الجثة".

مقابل ذلك التناغم التركي مع سيادته على ذاته، جاء الضغط في الكونغرس الأمريكي، بعد أن قدمت مديرة وكالة المخابرات الأمريكية الإحاطات اللازمة بقضية خاشقجي، صّعد الكونغرس أيضا لغته أمام البيت الأبيض رافضا التعتيم على القضية، أو "التعامي" عنها وفق وصف أعضاء في الكونغرس. تركيا، وبذكاء تسعى إلى الاستفادة من هذا الضغط في الكونغرس الذي صار فيه تناغما واضحا ما بين ما تقدمه أنقره من أدلة، وما توصل إليه أعضاء في الكونغرس إلى قناعات بتورط أمير من الدرجة الأولى بقضية مقتل خاشقجي.

الجريمة؛ بكل أبعادها التخطيطية والتنفيذية، ووحشيتها ارتكبت مع سبق الإصرار والترصد من قبل مسؤولين في الرياض، التي بدورها تتجاهل مسألة العدل التركي والقيم التي تنادي بها أنقرة من أجل إحقاق الحق في مقتل خاشقجي، وعلى الأغلب أن الرياض قد ظنت أن ملف خاشقجي في طريقه للطي أو النسيان، وراهنت الرياض على ما يبدو على عامل الزمن لإدخال القضية في دائرة الملل والكلل الإعلامي، غير أن ظنون الرياض جاءت بما لا تشتهي سفن أنقرة، ووسائل إعلام عالمية وأميركية، أعادت ملف خاشقجي إلى الواجهة، بعد أن أصدرت تركيا مذكرة اعتقال بحق أحمد العسيري وسعود القحطاني، وهما المقربين من ولي العهد السعودي.

لم تفكر الرياض أن الخلاص الوحيد في طي ملف القضية هو التعاون مع تركيا، والإجابة على الأسئلة بوضوح دون الاعتماد على روايات غير متقنة النّص، كما فعلت في بداية الأزمة

تصدرّ خبر مقتل خاشقجي وآلية التخطيط والتنفيذ، في الإعلام العالمي والأمريكي، و"قناة الجزيرة" عربيا منذ وقوعها أزعجت الرياض، وأثارت موجة عاتية من الرمال السياسية في وجه تستر الرياض على الجريمة، وسلبيتها وتجاهلها في التعاون مع أنقرة التي بدورها وظفت كل أدواتها للحفاظ على علاقات متوازنة مع الرياض. هذا التجاهل السعودي، أدى إلى نتيجة متوقعة تماما، وهي؛ تصعيّد أنقرة من لغتها، وقلنا في مقال سابق في "الجزيرة" أن تركيا ربما تمتلك مفاجأة من العيار الثقيل، غير أنها تلعب على عامل الوقت وإفساح المجال للرياض لإعادة برمجتها ونظرتها في القضية، التي اعترفت بها الرياض بعد ضغوطات الأدلة التركية، التي لم تكن في حسبان الرياض ولا في بالها.

في ظني أن في جعبة أنقرة الكثير من الإجابات على أسئلة مقتل خاشقجي، لكنها تستند إلى التدرج في الإفصاح عن المعلومات، وهو ما يعني ذلك التأكيد مرة أخرى لمنح الرياض فرصة التعاون، ومنحها وقت إضافي للتفكير في التعاون بالقضية، قبل أن تنتقل تركيا إلى تدويل القضية، الذي سيزعج الرياض أكثر من ذي قبل، ويجعلها في موقف حرج دوليا وعربيا كما هو الحال في استقبال بن سلمان في قمة العشرين ودول زارها قبل توجهه إلى بيونس آيرس، أدت إلى حرج سعودي لم تشهده الرياض من قبل.

إحاطة مديرة وكالة المخابرات الأمريكية، بفحوى ملف القضية دون المزيد من التفاصيل التي لو توفرت لحسمت الأمر.. غير أن "هاسبل" التي أغضبت الكونغرس بعد خروجها، رمت الكرة في ملعبهم لمواجهة البيت الأبيض، ومنحت "هاسبل" الضوء الأخضر لآخرين في ممارسة الجريمة لطالما أن ثمن الخلاص من التهمة هو المال. الرياض تعان راهنا من حرج كبير، وفي تقديري أن الرياض تلعن الساعة التي تم فيها التفكير والخلاص من جمال خاشقجي، وتسعى عبر كل أدواتها السياسية والتأثيرية والإعلامية إلى الفكاك من فخ خاشقجي الذي يلازم الرياض عربيا ودوليا.

 

في تقدير المحللين والمتابعين للقضية، ستتزايد الضغوط مع مرور الوقت إذا لم تتعاون الرياض مع أنقره، ناهيك عن قصة
في تقدير المحللين والمتابعين للقضية، ستتزايد الضغوط مع مرور الوقت إذا لم تتعاون الرياض مع أنقره، ناهيك عن قصة "المتعاون" الذي أعطوه الجثة، ولم يفصحوا عن اسمه وهويته
 

لم تفكر الرياض أن الخلاص الوحيد في طي ملف القضية هو التعاون مع تركيا، والإجابة على الأسئلة بوضوح دون الاعتماد على روايات غير متقنة النّص، كما فعلت في بداية الأزمة. فالتعاون مع أنقرة قد يختصر المسافات البعيدة ويقرّب وجهات النظر، مع أهمية التفريق بين السعودية كدولة، وبن سلمان كأمير من الدرجة الأولى وولي للعهد. دون ذلك ستبقى الرياض في حرج ومأزق دولي، وخصوصا إذا تم تدويل القضية التي بدأت ملامح تدويلها تظهر عبر التعميم دوليا على أحمد العسيري، وسعود القحطاني كأبرز متهمين في القضية، والبقية تأتي لأعضاء فريق الإعدام الذي حضر إلى اسطنبول لتنفيذ المهمة الوحشية.

الضغط المتزايد على الرياض من قبل الكونغرس، وتركيا لم يتركا مجالا لتنصل الرياض من مسؤوليتها، وعلمها المسبق في الجريمة، وفي تقدير المحللين والمتابعين للقضية، ستتزايد الضغوط مع مرور الوقت إذا لم تتعاون الرياض مع أنقره، ناهيك عن قصة "المتعاون" الذي أعطوه الجثة، ولم يفصحوا عن اسمه وهويته، لكأن المتعاون عابر طريق من أمام القنصلية قالو له: "خذ هالجثة بطريقك"! بعد مرور أكثر من 60 يوما على وقوع الجريمة، صار لزاما على الرياض أن تدرك أن ملف قضية جمال خاشقجي سيبقى مفتوحا على مصراعيه، وقضية الصحفي خاشقجي مفتوحة على كل الاحتمالات بعيدا عن تسجيل القضية ضد مجهول كما يتمنيان: الرياض ودونالد ترامب بصفته الشخصية وليس الرئاسية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.