شعار قسم مدونات

الظمأ المعرفي.. تحمل مسؤولية قرارك لطلب العلم!

blogs قارئ في مكتبة

قد يبدو العنوان كبيراً ولكن تحليله وتفسيره؛ يُجيب على الكثير من التساؤلات المتعلقة بالعلم، الوعي، الثقافة والمعرفة. طُبع مفهوم طلب العلم اليوم في الأذهان على أنه السبيل الوحيد لضمان رزق جيد وعيش كريم؛ عندما ترسخ مفهوم طلب العلم وتحصيله بهذا الشكل وارتبط بكسب الرزق واستحقاق العيش الكريم.. نزل من منزلته المشرفة منزلة الأنبياء "العلماء ورثة الأنبياء" إلى منزلة مادية بحته تفتقد الجوهر وتركن إلى المظهر.

ولأن هذا المفهوم تكرس في الأذهان يجب علينا توضيح الغاية من طلب العلم قبل الحديث عن تحمل مسؤولية قرار طلبه.. حين نحدث الطالب عن المسؤولية قبل الحديث عن الغاية، كأننا نقول له أذهب وافعل ما تؤمر واعلم أنه عظيم.. لكنه لا يعرف لماذا هو يفعل ذلك الفعل.. المجتمع فيما بعد يعطيه أحد القوالب فيُصب في أحدها. والحل هو فلسفة العلم ومنحه إطار فلسفي.. الفلسفة تعني التأمل وإعطاء المفاهيم أبعاد كثيرة وعدم الوقوف عند اللفظ بل تعدي اللفظ والوصول إلى المعنى. أجمل وصف فلسفي لطلب العلم هو الظمأ المعرفي؛ وهذا الوصف ذكره الدكتور عبد الكريم بكار في كتابه تكوين المفكر، وصف كهذا لا يجب أن نمر عليه مروراً عابراً.. لأنه يعبر عن حال أمم نهضت ويصلح أن يكون غاية للعلم.. غاية العلم أن يجعلك تظمأ للمعرفة وتشعر بالحاجة إليها.

الظمأ المعرفي كونه غاية للعلم

غاية العلم أن يكون قادراً على استثارة فكرك، قادراً استثارة فضولك، قادراً على أن ينفذ خلايا مخك ويسبر أغوار نفسك، قادراً على جعلك تستلذ به، قادراً على إصابتك بالجنون.. الجنون اللذيذ؛ كأن تقوم بالتصفيق الحار لمعلومة قرأتها في كتاب ما.. أو أن تصرخ قائلاً "الله الله"، ويقاس على ذلك الثقافة والمعرفة.. أما الوعي فشيءٌ آخر؛ الوعي هو الارتواء الذي يعقب الظمأ.. ارتواء العقل، العقل مثل الأرض.. حين يرتوي يُزهر، ولكن زهوره وثماره تعتمد على نوع مياه المعرفة التي ارتوى بها.

الظمأ المعرفي معبراً عن حال أمم نهضت
المطلوب من العلم هو إحداث تغيير في كيمياء النفس، وهذا التغيير هو الأدب. والمقصود بالأدب هنا ليس التخلق ولا التصرف بالأخلاق السامية وإن كان هذا أحد التغييرات المطلوبة؛ وإنما المقصود هو التأدب مع الله

بداية نهضة هذه الأمم كان هذا الظمأ، ظمأ لكل شيء من شأنه أن يعجل نهضتها، وبعد ذلك لم ترتوي حين نهضت بل تحول الأمر إلى ظمأ لا يرتوي وهو المسمى بالشغف. حين نفكر في ذلك الظمأ، من المسؤول عن جعل الشعوب ظماء للمعرفة، أهي مؤسسة بحد ذاتها أم مسؤولية تقع على عاتق النخب؟!

 

الأمر يتطلب الوقوف عنده كثيراً، لأنه من المستحيل أن نطلب من أمة بأكملها أن تظمأ للمعرفة والوعي، أمر غير منطقي، الشخص العادي الغير مهتم بالنهضة موجود في كل مجتمع وسيبقى، لكن برأيي أن هذا الظمأ لابد أن يتوافر في القادة، الرعية على دين الراعي، والراعي للرعية كالرأس للجسد، وهنا لا أتحدث عن الحكام، بل القادة الذين يعيشون بيننا، مدير مدرسة، أم لأطفال، معلم للطلاب.. أصفهم بالقادة لأنهم أدركوا ذلك أم لم يدركوا يقودون من تحتهم إلى نتيجة معينة، إن كانوا قوم ارتوا بالجهل فسينتجوا مزيداً من الجهل، وإن ظمئوا للمعرفة.. قدحوا شرارة النهضة.

تحدثنا عن البعد الفلسفي لغاية العلم، ماذا عن البعد النفسي؟!

المطلوب من العلم هو إحداث تغيير في كيمياء النفس، وهذا التغيير هو الأدب. والمقصود بالأدب هنا ليس التخلق ولا التصرف بالأخلاق السامية وإن كان هذا أحد التغييرات المطلوبة؛ وإنما المقصود هو التأدب مع الله.. التأدب مع كتاب الله.. التأدب مع شعائر الله.. وصولاً إلى التأدب مع خلق الله. التأدب مع الله من خلال إدراك معنى قول الله تعالى "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ"…لا إله إلا الله؛ أي إدراك قدر نفسك وقدر الله…في حين أن كثير من الخلائق ما قدروا الله حق قدره؛ أنت يفيض الله عليك بأنوار العلم فتعلم قدر نفسك وتنزلها منزلتها وتبقى مدركاً لحقيقة أنك مهما أكننت في نفسك من خشية ومقام لله ما قدرته حق قدره.

طالب العلم يعلم جيداً ما معنى تأدبت، أي أن يصبح الإنسان أكثر حياءاً وأقل صخباً وأطول صبراً ويتحقق فيه خلق الدين؛ خلق الإسلام
طالب العلم يعلم جيداً ما معنى تأدبت، أي أن يصبح الإنسان أكثر حياءاً وأقل صخباً وأطول صبراً ويتحقق فيه خلق الدين؛ خلق الإسلام "الحياء"
 

التأدب مع الكتاب.. أن تدرك معنى قول الله عز وجل "خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ".. وتسعى لتحصيل أسباب القوة والتمكين لتتمكن من تطبيق ما في هذا الكتاب وتسعى السعي الحقيقي لأخذه بقوة، ومفهوم القوة عادة يتخذ شكل سلبي ويرتبط بالبطش والاستبداد ولكن القوة التي تتحدث عنها الآية هي الثبات على الحق، القوة في الحق، رباطة الجأش وشدة البأس في الحق.. وقد اتفق العالم والعلم والدين أن لا سيادة ولا تمكين لضعيف.

التأدب مع شعائر الله إدراك معنى "ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ".. أي أن شعائر الله عظيمة في قلبك، لأنها أوامر الله فقط.. ليس لأثرها العظيم في حياتك ولا في نفسك، هي عظيمة لأنها أوامر العظيم.. وذلك كله من التأدب مع الله ومع أوامره، مع الطلب والدعاء بأن يوضح لك الله الغاية والحكمة من الأمر الذي يتعين عليك فهمه، ولكن الأساس هو التعظيم والتسليم.

التأدب مع خلق الله.. وأعظم ما خلق الله هو الإنسان، وهذا الإنسان فيه من روح الله ونفخة منه؛ والله يقول فيه "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"…كرمنا بني آدم، التكريم هذا لكوننا من بني آدم فقط.. الله يرفعنا لأعلى المقامات ويصفنا بهذا الوصف، وإن صح التعبير يحسن إلينا بهذه الرفعة.. فهل جزاء هذا الإحسان سوء الأدب مع هذا الإنسان! وطالب العلم يعلم جيداً ما معنى تأدبت، أي أن يصبح الإنسان أكثر حياءاً وأقل صخباً وأطول صبراً ويتحقق فيه خلق الدين؛ خلق الإسلام "الحياء".. والحياء الخلق الذي يمنع الإنسان عن فعل القبيح؛ أي أمر تكرهه النفس وتراه قبيحاً حتى وإن لم يكن منكراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.