شعار قسم مدونات

وقفتَ على ناصية الحلم دون أن تقاتل!

blogs لاجئة في الثلوج

كان يمسكُ بيدي ونمشي سويةً في إحدى شوارعِ دمشق القديمة، يشتري لي ثياب العيد، كان الجو حارا جدا، والطرقاتُ مزدحمة بما بعد التراويح، سألتهُ متعجبة: هل سيحدثُ لسوريا ما يحدثُ في العراق يا أبتي، أجابني: (لا يا صغيرتي، الجميع يقول أن سوريا الله حاميها) مشينا مشينا حتى ما بعد المتاجر والأسواق. الجو باردٌ جدا، عيدُ الأضحى على الأبواب، لقد انقضى عن ذلكَ اليوم، عشرة أعوامٍ ونصف، أنا الآن في إحدى البلدانِ الاسكندنافية الباردة، الطرقاتُ فارغةٌ تماما، لا أجواءَ للأعيادِ الإسلاميةِ على الإطلاق، ووالداي في أبعد؛ نقطةٍ عني، بينما زوجي يمسكُ بيدي في هذه الطرقات الأوروبية، سألته قائلة: هل يمكن أن نعودَ لبلادنا كما عادَ بعض أهل العراقِ يا شريكَ العمر؟ لكنهُ ظلَّ صامتاً.

بين تلك الدقيقتين عشرةُ أعوام، وآلافُ الذكريات، وعشراتُ المواقف، ومئاتُ الجرحى، وآلافُ القتلى، بين تلك الدقيقتين أحداث كثيرة، فقدانُ صديق، وغرقُ زميل، ومقتلُ عم، واعتقالُ جار، واستشهادُ رفيق، عشرات القصصِ المفجعة، ومئاتُ الحكايا التي لا تخطرُ على سويّ الفكر والبال، الحربُ تأخذُ منا ما نحتاجه وتعطينا مالا نحتاجه على الإطلاق، تأخذُ منّا الأكسجين وتهبنا غازَ السارين، تسلبنا آبائنا وتعطينا مراكزَ أبناء الشهداء، تسرقُ منا وطناً، وتعطينا لجوءاً في جميع أنحاء العالم، الحرب تأخذ منا المبادئَ الثابتة، وتعطينا أفكاراً سياسية لعينة، إنها تقلبُ الحق باطلا والباطل حقآ، تكشفُ عن أنيابها وتقتصُّ منك لحمةً نيّةً، فيخرجُ على إثر رائحتها آلاف الذئاب السياسية.

 

بين تاجر حرب، وسابي النساء، وبين مجاهد وشبيح ومرتزق وجلّاد، تحت تلك المسمّيات يُبَاد الوطن، وتذهبُ أبناؤه في رحلةِ النزوح والبحث عن خيمة، تهدمُ الدار، وتذبحُ الرجال، وتقتلُ الصغار، ويعيشُ الناجي على أطلال الماضي، يجثو على ركبتيهِ بعد عشرات السنين، ناظرا لأرزاقهِ المدمّرة، حزيناً على أشواقه المثقلة، ينحني كما ينحني العجوز الثلاثيني، تماما كما ينحني الثلاثيني الذي أغرقه الشيب، وقتله قهرُ الرجال ذاك، فيقفُ على ناصيةِ الحلمِ ليقاتل، لكنّه لا يجد أرضاً يقاتلُ فوقها، ولا يجدُ للحلمِ مكاناً.

 

أيها الهارب من بطش المعركة، المتمسّك بالسلام حتى آخرَ رصاصةٍ طائشة، يا من وقفتَ على ناصية الحلم لا تريدُ أن تحلم، إلا بحياة كالحياة، بعيدآ عن قانون الطوارئ، وبعيدآ عن ألبسة الجنود

حتى الناصية قد ولّت مع أولِ رصاصةٍ طائشة، سلبتْ منهُ محبوبتهِ الفقيرة، التي لطالما وعدها ببيت صغير يجمعهما، وكان عزائهما الوحيد، أن الحربَ ستنتهي مهما طالت، لكنّ روح محبوبته كانت أقصر، من المؤسفِ أن تتركَ الحرب في أفئدتنا ثقباً صغيراً كلّما حاولنا طمسِه، ظَهرتْ أناشيدُ الوطنِ في مذياعِ السيارة، بل ومرّ على التلفازِ اسم الوطن، فاستيقظت الأشواق التي نامت في صدورنا، وتصارعت بعدها دقائقُ الحاضرِ ولحظات الماضي.

 

صراعُ الذاكرة، تلك التي لا تنفكُّ عن استرجاعِ اللحظاتِ القديمة، كأن تمشي في شوارعِ النرويج المغطاة بالثلج الأبيض، وبحوزتك هوية كُتبَ عليها لاجئ، تضعَ يديك في المعطفِ الصوفيِّ النرويجيّ المصنع، لكن أطرافكَ باردةٌ للغاية، تشاهدُ الثلوج المتراكمةِ على الأرصفة، فتهبّ ريح باردة، تجعلكَ تغمض عينيك خشية التجمد، وفي إغلاق الجفون تصبح الطرقات واسعة، وسنابل القمح ذهبية لامعة، الجو حار مرة ثانية، طرقات المدينة مزدحمة بأجواء العيد، والناس خارجة للتو من صلاة التراويح، المغرب والعصر والفجر معا في آن واحد، في رفة جفن، في غمضة عين واحدة، والأيادي دافئة جدا، وكأن يد الوالدِ تقبض عليهما بشدة، لكن الواقع كان أشدّ برودة، فالعين عادَ إليها بصرها، والجفون عادت من رقادها السريع، وعادتْ الطرقات بيضاء قد تراكمتْ الثلوج فوقها، ويدي وحيدة داخل المعطف، والعائلة لا تزال هناك في أبعد نقطة عني.

 

أكمل طريقي مترصدة لهدفي، يشبه حالي حالك أيها القارئ، أيها الهارب من بطش المعركة، المتمسّك بالسلام حتى آخرَ رصاصةٍ طائشة، يا من وقفتَ على ناصية الحلم لا تريدُ أن تحلم، إلا بحياة كالحياة، بعيدآ عن قانون الطوارئ، وبعيدآ عن ألبسة الجنود، والمخازن المليئة، بعيدا عن دعوات المظلوم، وأنين الثكالى، تختنق بدخان الأتربة الصاعد، فتشتاقُ إلى كل ما لم يكن يعجبك يومآ، إلى السيارات القديمة، والدخان المتصاعد من محركاتهم والذي يعدّ مضرّا للبيئة، لكنه أقل ضرراً من غاز كيماوي قد قتل لك عشرات الأحبة.

 

ستشتاقُ إلى أصوات الألعاب النارية، التي كانت لا تهدأ في الأعياد الدينية بكل اختلافها، وكنتَ أنتَ الشاب المراهق الذي يتذمر من صوتها، ويشتمُ راميها ليلاً ونهاراً، فغدوتَ اليوم تشتاق إليها ولهدوئها فضلاً عن أصوات البراميل القاتلة، وقذائف الهاون اللإنسانية، كل ما اختلف الآن أنّك اليوم تشتم راميها بصوت منخفض، منخفض جدآ، خوفًا أن يُرمى بك ما وراء تلك القضبان، ويأتيك الظلام حيث لا ثلوج متراكمة ولا سنابل ذهبية أيضآ، لذلك أصبحتَ مسالما لا تترك للقتال فرصة، حتى أحلامك تريد أن تحققها بهدوء يعم أرجاء الحياة، أصبحت تخشى كل ما يشكل خطرا على هدوئك واستقرار، فوقفت اليوم على ناصية الحلم تريد الحياة دون أن تقاتل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.