شعار قسم مدونات

مأساة الإنسان العربي في غياب المعنى

BLOGS تفكير

يكفي أن نتأمل الشارع لحظة، أو نلقي نظرة على رواد مواقع العالم الإفتراضي، ومعظم اهتماماتهم؛ لنرى تجليات حالة الفراغ، والتيه التي يعيشها الإنسان العربي؛ المتعب: فكريا، نفسيا وجسديا.. والمغيَّب عن قضاياه الأساسية؛ إما بالإنهماك في توفير السكنى، والقوت الأدنى، أو بأمور تافهة يستجدي منها المتعة والمعنى.

 

وبينما يستبد طوى الروح بشكل مكين تستعر أكثر رغبات الأجوفين من هيكل الطين ويلهث الكائن المهزوم في تلبية أهواءٍ لها يستكين كلما ازداد نهما كلما ازداد شغورا وحنين..؛ للمعنى الذي غادر حياته منذ حين.. فيضيع المسكين دون بوصلة تحكم ولا دليل معين.

 

ولنا أن نتخيل حالة التيه التي يتخبط فيها وتتخبط فيه، والتي جعلته مع كامل الأسف طريدة سهلة لشتى أنواع الإستيلاب العقلي، والثقافي. كرسه إعلام سخيف، مروج للوهم والتزييف، في تطبيق حرفي لإستراتيجية الإلهاء التي وضحها نعوم تشومسكي؛ ليسهُل التلاعب والتحكم بالكائن الضعيف. فكانت النتيجة ما نراه من أنواع الهوس، ومظاهر الإغتراب، والإنتكاس الأخلاقي والإنساني.

 

تحت مظلة الإيمان يشعر الإنسان بمدى أهميته ودوره في الحياة، ويجد فيه ما يمده بطاقة هائلة من العزم والحلم، تؤهله لتحمل الأعباء والأنواء، وتمنحه المناعة والوسع للتسامي بالذات

لا شك أبدا، أن الحياة التي تفقد معناها؛ حياة ضحلة.. يعنكب اليأس بين زواياها المهملة. على غرار الإنسان حين تسلب منه إرادة المعنى الفعلية، ويتردى في العبثية. إن تحقيق المعنى قبل أن يكون غاية وجودية؛ فهو احتياج للكائن، يمنحه الجدوى والإعتبار، ما تمسك به إلا ملك زمام السيطرة، وتمام المُكنة على المواصلة، وإلا تهاوى إلى أدنى دركات العته والضياع، وتماهى في غيابات الفراغ الكوني.

 

يقول سبحانه وتعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ سورة المؤمنون آية 115. إن الكائن لم يأت اعتباطا للوجود وإنما له علّة غائية مطالب بإنفاذها كإنسان عاقل، تتعدى نطاق الذات، إلى باقي الذوات، مترفعة عن السفلي من الملذات؛ وتتلخص في رسالة يلتزم بإنجازها، وقيّم يفعّل بها إنسانيته وإيمانه داخل مجتمعه. فيتحقق بذلك الجوهر الحقيقي لمعناه الوجودي السامي والمتسامي عن التمحور حول ذاته، وفي سورة النجم يقول عز وجل: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ.

  

لو يعي الإنسان جيدا بأنه لم يأت عبثا إلى الدنيا، وإنما مكلف برسالة واضحة المعالم مسؤول عنها، وأن الحياة مجرد مرحلة انتقالية يتم فيها التطبيق العملي لما وقر في جنانه من مبادئ، وأن المواقف التي يمر بها بحلوها ومرها ليست إلا تمحيصا لإيمانه؛ لكفاه ذلك عن الزيغ والعبث، وأيقظه من نوم الغفلة؛ بجعله متيقظا طول الوقت لما خلق لأجله، ومتأهبا لتقبل أحوال الحياة، والتكيف مع مختلف ألوانها بصبر جميل، طمعا في غاية كبرى وهي مرضاة الله عز وجل، وثقة بما أعده سبحانه لعباده المحسنين الصابرين في جنات عدن من عظيم الجزاء.

 

تحت مظلة الإيمان يشعر الإنسان بمدى أهميته ودوره في الحياة، ويجد فيه ما يمده بطاقة هائلة من العزم والحلم، تؤهله لتحمل الأعباء والأنواء، وتمنحه المناعة والوسع للتسامي بالذات في بعد إنساني راقي يحكمه العقل والمنطق. وإلتقاء مع نفس الفكرة، ورد في فحوى كتاب البحث عن المعنى للدكتور فكتور فرانكل رائد المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد آدلر، أن الإنسان لن يحقق ذاته إلا بمقدار تحقيقه لمعنى كينونته في هذا العالم. ويجزم يقينا بعدم وجود شيء في الدنيا يمكنه مساعدة الكائن البشري على البقاء حتى في أحلك الظروف وأشدها قتامة؛ مثل إدراكه أن هناك معنى لوجوده، يحيا به ويحيا له، بل ويتحمل في سبيله المشاق الجسام.

 

إنطلاقا من هاته المسلّمة الوجودية أسس فرانكل نظرية جديدة في العلاج النفسي، تستند على الحقائق المعنوية الروحية في إحياء إرادة وامكانات المعنى عند الشخص المعالَج سماها نظرية العلاج بالمعنى. وصل فكتور فرانكل إلى هاته الحصيلة بعد اختبار عصيب مر به في معسكر النازيين يسرد أحداثه بين ثنايا كتابه، حين تحول من إنسان ذو كيان وهوية إلى مجرد رقم واهي، يساق كما القطيع مع باقي الأرقام المعتقلة بنفس المعسكر؛ ويروي كيف مكنه إيجاد معنى في المعاناة من النجاة، وساعده على تخطي الشعور بالألم، رغم مقاساة البرد، والجوع، والذل، وترقب الموت داخل أفران الغاز كل لحظة.

 

إن مبدأ المعنى، مبدأ متجذر في ديننا الحنيف، كان من المفترض تشرّبه كمبدأ قار في التربية ابتداء بالأسرة ثم المدرسة والإعلام، لو لم يقدم الثلاثة استقالتهم، بعد أن تداعت هيبتهم وفقدوا دورهم التربوي التكاملي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.