شعار قسم مدونات

كيف تقيأت الضفة السم؟

blogs مسيرات العودة

الضفة تحمل البشارة.. بيمينها تُسرج الخيل للفاتحين وبكفها يشتد عرق الياسمين.. هذه الضفة.. بعِطر العياش تستدل الطريق وتسند بالصبر قلوب الأمهات، ما وهَنَت ولا لانت.. ما مدّت يدها للغزاة.. ما مدّت يدها إلا لتغزل أجنحة للشهداء وإن ضاق القيد على المعصم! هذه الضفة.. تقاوم حتى آخر النبض ولا تركع إلا لمن وعد بالنصر. يا ابن الضفة.. من غيرُك ينبش الجمر تحت الرماد.. من غيرُك يقايض الدم بالأرض.. غزة في انتظارك؛ فلا يليق النصر إلا ويدك في يدها. من أيقظ الضفة؟ وهل كانت في غفلة حقاً؟ هل غطَّت في سبات عميق؟ أم أن السلطة الغادرة الكالحة نجحت لوهلة في تهميشها وتشويه صورتها وسلخ جلد أبنائها قرباناً لرحيل.

 

الضفة.. عارية كفُّها.. غائرة الخناجر في صدرها.. مُكمَّم بالقهر فمُها.. معذَّبة باحتلالين.. وسوطين.. لكنها رغم ذلك لم يُعجِزها أن تفتح أبوابها للشهداء وتنثر مسك دمائهم على الشوارع العطشى. من كان يتأمل حال الضفة والقرح الذي أصابها والعفن الذي علا جسدها كان يصاب بالجزع؛ فالعَتمة تسكن الأحداق ولعْقُ أحذية الاحتلال أضحى مصلحة وطنية، والرصاص بات يلاحق الأحرار والذاكرة.. واستنسر البغاث في أرضها.

 

خفَتَ وهج العمل المقاوم في الضفة وأصبح تهمة يحاول الكل تبرئة نفسه منها، ولذلك أضحت العمليات المقاومة في وقت ما قليلة بل معدومة بسبب تضييق الخناق من قبل السلطة الكالحة وأعوانها.. فأن تستيقظ والكل نيام فهذا مدعاة للاعتقال! والعين اليقظة وسط النائمين يتم قلعها لتكون عبرة لكل من تحدثه نفسه باليقظة والصحو! والغضب في العروق بات ناراً تأكل أصحابها فقط.. لا تضيء الطريق ولا تحرق المحتل.

 

عشرات العمليات خلال فترة بسيطة جداً.. هذا الزخم وهذا النجاح للعمليات قياساً بحجم الضغط وتضييق الخناق والملاحقة من قبل الاحتلال والسلطة والعملاء والكاميرات المنصوبة في الطرقات أعاد اليقين

ولوهلة ظن الجمع أن الضفة الغربية حلّت ضفائرها للغزاة وأعوانهم! لكن كيف انبعث هذا الفعل المقاوم من جديد وبهذا الزخم وبهذه الدقة في التخطيط والتنظيم؟ كيف تقيأت الضفة السم؟ واستيقظت لتغزل خيوط الفجر؟ كيف انشق البحر وعبر الثوار والشهداء؟ الضفة لم تنم.. الضفة تعرف خصمها جيداً.. تقاومه حتى تفحم الصبر.. ما جفَّ عودُها وما انكسر، ولكنها حيلة الاحتلال.. الاحتلال الذي عجز أن يكسرنا بيده.. فاستعار يداً من أيدينا.. حمَّلها رصاصه وهراواته وزرع أشواكه بين ورودنا لنزداد قهراً وألماً.

 

يا ابن الضفة.. عدوك يعرف أنه لا سبيل إليك إلا بيد تحمل عروقك ولون دمك.. فكانت السلطة! يا ابن الضفة.. عدوك يعرف أن لحمك مُرّ ولن يستطيع قضمه ولا سبيل لذلك إلا بفم يشبهك! ظن الاحتلال أنه استطاع تفتيت الشعاع ووأد الثوار وأنّى له ذلك.. فخرج أشرف نعالوة وصالح البرغوثي ومجد مطير ومحمود نخلة.. فطوبى لهم.. طوبى لدمائهم التي ما همَّها الاحتلال وزبانيته.. فسال الدم على التراب وأزهر.

 

هذا الشهيد هو من أعاد اليقين.. هو يعلم أن سلاحه عتيق واشتباكه لن يحصد ما يصبو إليه من أرواح المحتلين.. لكنه على يقين بأن هذا الفعل يفسح الطريق للنور أن يسطع ولإرادة الثوار أن تقوى.. تعبد الطريق لأرواح تتوق لحمل البندقية صوب المحتل. هو يعلم أنه قد ينطفئ قبل أن يحرز النصر.. لكن نصره الحقيقي أن يحدد بوصلة قلبه ومكانه في المعركة. الجديد في أمر هؤلاء المقاومين أن الأمر تعدَّى الدهس والطعن وارتقى للسلاح الناري وهذا لم يكن متوفراً من قبل! وغدا التخطيط محكماً والانسحاب بسلام سمة من سمات العمليات.

 undefined

عشرات العمليات خلال فترة بسيطة جداً.. هذا الزخم وهذا النجاح للعمليات قياساً بحجم الضغط وتضييق الخناق والملاحقة من قبل الاحتلال والسلطة والعملاء والكاميرات المنصوبة في الطرقات أعاد اليقين الذي خفَتَ في وقت من الأوقات ورسم خريطة جديدة تشبه خريطة المقاومة القديمة حيث كانت المجموعة المقاومة تكبر مع كل عملية وتستمر لسنوات وسنوات قبل أن ينكشف سرها.. تنضج.. تكبر.. تُوجع وتؤلم، أما مع وجود السلطة فقد تُوأَد المجموعة المقاومة قبل الميلاد!

 

العمليات الأخيرة أعادت وهج العمليات السابقة حيث كانت الخناجر تُزرع في خاصرة المحتل فلا يستطيع منها فكاكاً.. والضفة أشعلت نيرانها وأطلقت جيادها وإن خَفَتَ الوهج فهو استعداد لنار لا تنطفئ إلا برحيل المحتل.. يا أشرف.. يا صالح.. يا شهداءنا الأبرار.. كيف كان شكل الخطوة الأولى؟ أيرعبكم الموت؟ أم اعتياد الذل والهوان؟ أتأمل إجابة عيونكم وأوقن.. أن الذل أكثر رعباً من الموت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.