شعار قسم مدونات

في اليوم العالمي للغة العربية.. هل تتغير حياتنا بإتقان اللغة؟

مدونات - اللغة العربية كتابة قراءة arabic

قال الأديب ثروت أباظة: "كنت حين أراجع بعض الدروس في اللغة العربية أو الدين مع ابني وابنتي، أجد لسانيهما يعوج عن اللغة الصحيحة عوجًا لا قبل لأحدٍ به، وكنت أصحح ما استطعت، ولكن كانت حجتهما قوية؛ فهما يقولان إنهما لن يمتحنا امتحانا شفويًا، وإنما سنثبت هذا الكلام على ورقة الإجابة. وكانا بطبيعة الحال يلحنان في الآيات القرآنية ويسوقان الحجة نفسها إذا قومت الخطأ! وكنت أقول لهما: إن اللحن في القرآن ليس مجرد خطأ لغوي، وإنما هو خطأ ديني أيضًا؛ فكانا يخافان بعض الشيء ولكنهما يعودان للخطأ أيضًا!" مقال بالأهرام (العدد 32760 بتاريخ 20 أغسطس 1976).

واقترح أباظة إعادة الامتحان الشفوي إلى المدارس؛ فهي تساعد على تقويم لسان الناشئة، ورأى أن إلزام الطلاب في بواكير حياتهم الدراسية بحفظ جزءٍ من القرآن الكريم أدعى لإصلاح ألسنتهم. وفي مقال سابق بالأهرام (العدد 32701 بتاريخ 22 يونيو 1976) يقول أباظة: "تستطيع أن تكون أستاذًا عظيمًا في الأدب، ولكن هذا لا يجعلك بالضرورة تعرف اللغة التي تخاطب بها من تخاطبهم؛ فهناك كلام يقال في المدرج بأسلوبٍ معين وبألفاظ بذاتها، وهناك كلام يكتب في المجلات المتخصصة، وهناك كلام يكتب للجرائد اليومية، وهناك حديث خاص للندوات العامة. ومعرفة كل مجال وما يتطلبه من كلام هو الأساس الذي نستطيع به أن نصل إلى الناس، ولكن كثيرًا من الأساتذة يكتبون في الجرائد اليومية مالا تحتمله إلا المجلة المتخصصة، وكثير منهم يكتب في الكتب كلامًا لا يسوغ إلا في الجرائد اليومية! وتختلط الأمور عليهم وعلى قرائهم، ويقعون في (أحابيل الأستذة)، ويقع الجمهور في أحابيل الخوف من عدم الفهم حتى لا يقال عنهم جهلاء، ويصبح الكلام في الهواء لا قيمة له ولا يجد له فاهما".

يضع أباظة بين أيدينا طرفي الخيط؛ فالأول يتمثل في طلاب المدارس والجامعات، وهم بحكم دراسة اللغات الأجنبية -مجاراةً لسوق العمل- قد طلقوا العربية طلاقًا بائنًا، بل منهم من ينظر نظرة دونية لمن يتحدث العربية، وإذا ناقشتهم سلقوك بألسنة حداد دفاعًا عن موقفهم، وأكالوا التهم للعربية وأهلها. أما الطرف الآخر للخيط؛ فيمسك به أساتذة ومتخصصون في اللغة، ينظرون للناس من برج عاجي، ويتكلفون في اللفظ والأسلوب تكلفًا ينفر منه أبو علقمة وعيسى بن عمر الثقفي!

القواعد مسألة بدائية يجب أن يتقنها كل متعلم؛ فكيف لا يتقنها الأديب الكاتب! فلن يحترمك قارئ أو مستمع لك إذا أخطأت في النحو

ويبقى الحل دائمًا وأبدًا في الوسط، يكمن في إيجاد سبيل وسط، لا ينزلق باللغة في وحل اللهجات والعامية، ولا يتعالى على الواقع ويغالط العصر. لا يستقيم أن نرمي الشباب بالغباء، ونستدل على ذلك بضعف اللغة قراءة وكتابة، ويجدر بنا التفكير في طرق تقربهم من اللغة وتحببهم فيها، ولا يجب علينا أن نلزمهم طريقتنا في الترنم بالضاد، لكن تقريب اللغة إلى الجيل الحالي والأجيال المقبلة مسؤولية كبيرة، وابتكار وسائل مساعدة أمر حتمي لتحقيق قدر معقول من التمسك باللغة العربية.

أتفق معك تمامًا حين تقول: "إنها ليست لوغاريتمات"، ولكن كل شيء يتطلب التدرج في التعلم، وهذا التدرج إن سبقه تخطيط محكم، تحققت نتائج ملموسة في وقت قياسي. وحين تتحدث إلى شباب المدارس والجامعات؛ فإنهم يحاجونك بما مفاده أنك لا تدرك حجم معاناتهم في اللغة، وقد يبالغ أحدهم ليظنك ولدت وصدرك كتاب سيبويه "الكتاب" الملقب بقرآن النحو، أو أنك جالست الخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبا عمرو بن العلاء، وأبا محرز خلف بن حيان الأحمر، ويونس بن حبيب النحوي، وعليّ بن حمزة الكسائي وغيرهم من سدنة اللغة وأساطين العربية.

وقد تحتاج في حديثك معهم لتقديم نماذج من واقعهم، وهذه النماذج كثيرة ومشرفة، لكنني آثرت أن يصحبنا أباظة في هذه الجولة، وأترك له إرشادنا إلى طريقته التي سلكها ليتقن اللغة ثم يدافع عنها. وربما يكون في حديثه ما يجد فيه بعض الشباب بغيته لتحسين لغته وتطوير أدائه فيها.

يتذكر أباظة بدايات علاقته باللغة فيقول: "في الإجازة التي جاءت بين السنتين الثانية والثالثة الثانوية، قال لي الأستاذ أحمد حسين القرعيش: أنت تكثر من اللحن بصورةٍ مخيفة! قلت: لا يهم؛ فأجابني: كيف لا يهم؟ أتريد أن تكون أديبًا وتلحن؟! إن القواعد مسألة بدائية يجب أن يتقنها كل متعلم؛ فكيف لا يتقنها الأديب الكاتب! لن يحترمك قارئ أو مستمع لك إذا أخطأت في النحو. وكان قريبي "توفيق عوضي أباظة" معنا؛ فصدَّق على كلام القرعيش، وأخذت الكلمتين في ضلوعي ولم أعلِّق وأكملنا السهرة، ومضينا في سهراتنا حتى انتهت الإجازة.

وحين بدأت الدراسة في السنة الثانوية الثالثة، أرغمت نفسي أن أقرأ وحدي بصوت مرتفع كل ما أقرأ، سواء كان مذاكرة أو كتبا في الأدب أو حتى في الجغرافيا أو التاريخ أو الطبيعة. وحرصت أن أصحح لنفسي ما أقرأ وأعرب كل كلمة قبل نطقها، وأنطقها بحركة إعرابها، وبعد شهور قليلة استقام لساني. وجاءت الإجازة الصيفية، وفوجئ الرجلان بشخص مختلف، لا يلحن في اللغة مطلقًا أو يكاد لا يلحن، ودهش الرجلان مما صنعت وهنئوني بهذا التقدم المذهل". وردت هذه القصة بنصها وفصها في كتابيه "ذكريات لا مذكرات"، و"لمحات من حياتي".

لعلّ البعض يرى نفسه في قصة أباظة؛ فإن كان ذلك كذلك، فقد ساق لك الرجل وصفة مجانية ويسيرة، يتعين عليك أن تأخذ بها وتواظب عليها، وثق أنك ستجني ثمارها الطيبة، وسيشعر من حولك بهذا الإنجاز العظيم. قد تحتاج فقط للوقوف على مدى أهمية الحديث والكتابة بالعربية، ويمكنك قياس ذلك بالحديث إلى صديقكَ أو صديقتكِ أو بعض المقربين إليك، وتطلب منه أن يدوِّن عدد الكلمات الأجنبية التي تتلفظ بها لدقيقتين فقط! عندها تدرك حاجتك للإقبال على اللغة العربية، وتقف على الفراغ اللغوي "العربي" في قاموسك الشخصي.

يعبر عن الحب بالاهتمام؛ فلولا الاهتمام ما كان للحب معنى، وبالقياس فإن الاهتمام باللغة يبعث في نفسك حبها، والحديث عن تقدم أحرزته أو كلمة جديدة تعرفت على معناها يدفعك للأمام خطوة، وأن تقرأ كثيرًا تضيف لفوائدك اللغوية لمسة خاصة، وأن تسمع لبعض الخطباء المصاقع أو الأدباء والمحاضرين والإعلاميين متقني اللغة، ينقلك لمستوى أعلى من الاهتمام باللغة والتعلق بها.

إمعانًا في تشجيعك على دخول محراب اللغة، ابدأ في أسرع وقت بتعلم كلمة واحدة أسبوعيًا، فقط كلمة واحدة ابحث عن معناها، ووظفها في أحاديثك اليومية
إمعانًا في تشجيعك على دخول محراب اللغة، ابدأ في أسرع وقت بتعلم كلمة واحدة أسبوعيًا، فقط كلمة واحدة ابحث عن معناها، ووظفها في أحاديثك اليومية

لا بأس وأنت تتعلم أن تخطئ؛ فمن جهلنا نخطئ ومن أخطائنا نتعلم، لكن لا تخجل من المحاولة؛ فقد ضاع العلم بين الكبر والحياء، واعلم أن الأصمعي كان يحمل ألواحه في كل مكان، حتى إن أمكنته الفرصة نظر فيها ولو كان في مجلس الرشيد! وقد بلغ التسعين وهو يطلب العلم، وخرج إلى البيداء على قدميه، وهاجمته الحمى فلم تشغله عن متابعة العلم وطلبه؛ فما عذرك أنت الآن وفي يدك الجوال والكتاب الالكتروني وكل سبل الراحة والهدوء؟ 

قال الأصمعي يومًا: "إن الرجل قد تصيبه النائبة؛ فيستعير من صديقه أو قريبه ثوبًا يلبسه ويظهر به، ولكنه لا يستطيع أن يجد من يعطيه علمه وأدبه ولسانه عند الحاجة" ثم أنشد:

وما حسنُ الرجالِ لهم بزينٍ إذا لم يُسْعِدْ الحسنَ البيانُ
كفى بالمرءِ عيبًا أن تراه له وجهٌ وليس له لسانُ

فالمسألة ليست من سقط المتاع، ولا أنها عصية على الحل، والأمر لك إن شئت تقدمت وإن شئت راوحت مكانك. انتقل ثروت أباظة من طالب لا يرى في اللحن شيئًا يستحق الاكتراث به، إلى رجل يدافع عن اللغة وينافح بكل ما أوتي من وقت وفكر، وفترة الانتقال من اللحن اللغوي إلى التمكن والاقتدار لم تطل، وأنا على يقين أنك إن وضعت الأمر في بؤرة اهتمامك؛ ستنجز سريعًا وتحب اللغة وتنضوي تحت لوائها.

وإمعانًا في تشجيعك على دخول محراب اللغة، ابدأ في أسرع وقت بتعلم كلمة واحدة أسبوعيًا، فقط كلمة واحدة ابحث عن معناها، ووظفها في أحاديثك اليومية، ولتكن بدايتك بكلمات بديلة لتلك التي تستعملها من اللغات الأخرى وبكثرة، وحاول أن تحفظ حكمة عربية واحدة كل أسبوع؛ فهذا يزيد من رصيدك ثم تكبر كرة الثلج. استعن ببعض البطاقات التذكيرية، وانظر فيها لتثبت الحفظ، وحبذا لو خصصت لنفسك ملف على برنامج "ميكروسوفت وورد" وليكن تحت عنوان "قاموسي الشخصي". في قاموسك الشخصي ضع الكلمات الجديدة والتعبيرات التي أعجبتك، والأبيات الشعرية والاقتباسات والأقوال المأثورة والحكم والأمثال التي رأيتها مناسبة لإنفاقها في تعاملاتك الحياتية، واحرص على النفقة من رصيدك اللغوي ليربو ويزكو، وأول الغيث قطرٌ ثم ينهمر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.