شعار قسم مدونات

الكتابة.. عشقي الذي تخليت عنه مجبراً

blogs - الكتابة

"لقد جُنّ جنون الشّاب! جُنّ وانتهى الأمر" هكذا سمعتهم يتهامسون عنّي ويضحكون فيما بينهم ذات يوم، وضحكاتهم السّاخرة تلك! جعلتني أشمئز من حالي وحتّى من ظلّي رفيقي. اليوم جهّزت نفسي لمواجهة مخاوفي، سأستقلّ كبسولة الزمن فأنا عائدٌ لزيارتهم لإلقاء السّلام. أيقظت أجزاءً من ذاكرتي كانت في سُبات إلى حين، وسافرت إلى ذلك الماضي البعيد، إلى ريعان شبابي أين كنت شابّاً حالماً، ميتّماً، وكتوماً. حينها! كان عالمي الخاص بسيطاً، وغير معقّدٍ البتّة، كانت أسمى أحلامي فيه أن أقتطع من يومي وقتاً لنفسي، لأجلس فيه منقطعاً عن كل البشر، منعزلاً عن كلّ الملذّات، فأستذكر ما قاله الشّاعر رشيد ياسين:

وأَنْشُد منها في الملذّات مهربا فأشعر أنّي في الملذّات زاهد

فأنا مُخْتَلٍ في حضرة الحبيبة.. خليلتي الكتابة وما أدراك ماهي، تدفعني إليها عاطفة جيّاشة سامية، فقد كانت تناديني فلا أملك غير أن ألبّي ذاك النداء الخفي، أو أن أواجه ليلي كئيباً أرِقاً. تعوّدتها أشدّما تعوّد وبمرور الأيّام صارت تلك الألفة حُبّاً، وصار الإعجاب عشقاً، فراحت الرغبة تصير أقوى وأسمى، فما عدت أملك نفسي حين أذكرها أو إذ أنّها ذكرتني. كانت تتملّكني رغبة جارفة كلّما استذكرتها فلا أجد لها مقاومة، وعلمت أنّني صرت بها ميتّماً مغرماً. فأنا أصير بحضرتها أشبه بالفّنان الثمل بفنّه، لأذهب في رحلة بعيداً عن هذا العالم، وحيداً أرسم قطعاً فنّية بكلمات تتدفّق منّي على حين غرة دونما انقطاع.

أنا اليوم لست نسختي السابقة تلك، فما عدت أحمل الحقد لصِحابي الكرام، فسرّ المضيّ قُدماً هو العفو لا الانتقام. وانقلبت البغضاء هواً وعشقاً، فقد كانوا سبباً وضعه الله في طريقي ليصنعوا منّي شخصي الحالي.

حبري ودفتري وقاموسي القديم، كانوا زاد خلوتي، وكنت أستعين على ذلك بالكتمان حتى لا يعرف أحد سرّي الصغير. فلا أشعر بالخجل مما أكتب أو أفعل، لكن الرّياح جرت فجأة بما لا يشتهيه كتماني، وانكشف أمري وبانت عورتي، فجرّني النّاعتون إلى عالمهم وجعلوني أضحوكة زماني فرميت يمين الطّلاق على حبيبتي مُجبراً، وصرت بذلك ضائعاً تائهاً. تنازلت عمّا كان يمنحني الأمل وراحة البال وشغف اللّيالي الطِّوال، واهماً أنّه الفعل الصواب، فما تخلّصت من سخرياتهم اللّعينة ولا مِن أحقادهم الدفينة، وصاروا يرمقونني بنظرات احتقار أكثر من ذي قبل لأني ببساطة تخلّيت عن شغفي من أجلهم. فجرّني الاستسلام إلى دوّامة الغلّ وأمراض القلب، وما عدت أنا! وما عدت أرضى المُقام بين ظهرانيهم فأضحيت نادماً متحسّراً.

كان أرقى شيء عندي آنذاك هو ذلك الصّوت الذي يناديني خلسة فألبي ندائه، فصرت على حِين غِرَّة لا أملكه ولا أملك شيئاً. لم أكن أعرف الكثير عن الكتابة وسبلها سوى حبّها، وعن علوم الثقة بالنّفس وكيفية صرف المحبطين سوى الشيء القليل. فسلبوني إيّاها، وجعلوني انكسر وأسقط ببساطة، بعد أن نعتوني بأبشع الأسماء والصّفات. عيّروني بالفقر، نعتوني بالجنون! نعتوني حتّى بأسوأ من ذلك. فجفّ قلمي وجفّت معه مشاعري وذبلت أفكاري، فتخلّيت عن حبّ قلبي مُكرهاً مُرغماً. وركنت إلى زوايا عالمهم المثالي متجاهلاً نداءاتها الآتية من بعيد حتّى يئِسَتْ من طلبي، فما عادت تريدني وفارقتني إلى غير رجعة.

أنا اليوم لست نسختي السابقة تلك، فما عدت أحمل الحقد لصِحابي الكرام، فسرّ المضيّ قُدماً هو العفو لا الانتقام. وانقلبت البغضاء هواً وعشقاً، فقد كانوا سبباً وضعه الله في طريقي ليصنعوا منّي شخصي الحالي. الكتابة اشتاقت لي أكثر من اشتياقي لها، رجعت تطلبني بعد أن وجدتُ نفسي، وها قد رَجعتُ لأحضانها بعد أن طلّقتها لسنوات طوال. وها أنا أنشّد فيها من أبيات نازك العراق:

وما كنت أعلم أنّك أن غبت خلف السنين

تخلّف ظلّك في كلّ لفظ وفي كلّ معنى

وفي كلّ زاوية من رؤاي وفي كلّ محنى

فإن كنت قد نسيتها متوهمّاً فما نسيتني وما مقتتني، ولأن الرغبة في الصفح أشدّ من الكره ومواجعه! ما نسيت صحابي أيضاً، ولست أدري ما صاروا إليه وما فعله الزمان بهم. فقد كنت أتمّنى لو أنّي واجهتهم آنذاك، لكنّ ما منعني كان نقص خبرتي وجرأتي، وإلا كنت رددت صاعهم صاعين، أو كنت على الأقل دافعت عن نفسي، وليسمّوها إن شاءوا عُنفاً أو فِدا، أو فليسمّوها قصاصاً، دفاعاً أو صموداً.

اليوم أخوض حربي من أجل نفسي، من أجل حبيبتي ومن أجل كل هؤلاء السّاخرين الذين عرفت والذين لم أعرف. ففي قلبي براكين تغلي، جعلت كلماتي تنفجر لتضحى قبساً، أتمّنى أن يضيء دربي ودروبهم فأصير به سعيداً مسروراً. انتفضتُ أخيراً من نومي الذي طال، ولن أفارق الحبيبة حتّى تروح الرّوح لبارئها، فإن كنت بكتاباتي بريئاً براءة الذئب من دم يوسف، فلِم الخجل والشعور بالدونية ممّا أفعل؟ أنا لا أخفي أسراراً، فلست كوحش بحيرة لوخ نس الأسكتلندي غامضاً وهمياً. أنا هنا لأكتب من أجلهم عسى لكلماتي أن تغيّر ما اقترفوه من قبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.