شعار قسم مدونات

التوبة إلى الله حق عليك

blogs صلاة

تقسيمات هذه الحياة مُتعبة، لا تختزن بين أيامها سِوى تلك التقلبات التي تهوي بنا في دوامة الأحزان، ولا تشوبها الراحة الكاملة إلا وقد أُختتِمتْ بمآساة تُحاكي الدهرَ خيبةً. تراكمت المشاكل والصِعاب فصنعت فوق ظهورِنا جبالًا من الانكسارات المتتابعة، فحّولت من أرواحنا أشباحًا تلاحق آمال المستقبل استبشارًا بالأمل المنقطع. توالت أيام العجاف فأصبحت تمتد إلى سنواتٍ وأشهرٍ أخرى، ارتكبت بحق ذاتنا أخطاءٍ لا تُغفَر، وأُلحِقَ الضَررَ بنا فباتت آثاره تتجلى على ملامح اقدارنا، تُركنا في أمس الحاجة لبقائِهم، وأُفلِتت أيدينا عند أول قارعة طريق الفشل.

تهافتت الأحزان من حولنا، فأصبحنا في مهاوي الفشل نتزاحم في القاع هناك حيث المكان ليس لنا، صفعتنا الحياة بكل قوة ثم ألقت بأحلامنا خارجًا، نحو السحاب هناك غارت بينها فتلاشت دون وداعٍ منها، تألمت جروحنا وصرخت أرواحنا دون مجيب. لم يكن هناك قريبٌ نأوي إليه منكسرين فيضمد جروحنا جيدًا ويحتضن أوجاعنا فيخفف آلام قلوبنا المحطمة، ولا يدٍ تمسكنا بكل قوة فتنتشلنا من أحزاننا، ابتعد الجميع عنا فأصبحنا بين أحضان الوِحدة مُحتضنين، نذرف دموعنا عند الساعة الواحدة ليلًا عند وقت نوم الأخرين، لنبقى ساهرين الليل برفقة الوسادة، ننظر في المرآة فنرى شحوبنا كانت قد تمكنت من كامل ملامحنا.

في لحظةٍ ما وعند تلك النافذة بالتحديد، خُطت أول رسالة إلى الله، رسالة اعتذار ومناجاة، كُتِبت بخط اليد المرتجف ترافقها مُلوحة الدمعات المنهمرة، ترسُم على الوجنتين انكسار الروح والقلب، عدنا إليه منكسرين ككل مرة، عدنا إليه أملًا برحمته؛ فإني أقسم بأن الحياة قد أغدقتنا بصفعاتها الغابرة، فعدنا إليه عالمين بعظمته وجلالته. للحظة يُباغتنا صوتُ آذانٍ مرتفع، بصوتٍ كادت تبكي الحجارة من لينهِ، يُغلف قلبك فتحاوطه الطمأنينة وكأن الله يخبرك هيا اذهب فاسجد واقترب، رسالةٌ من الله إليك فاغتنمها وكأنه سبحانه يُذكرك بأنه لا ملجأ ولا منجا إلا إليه.

لا أعلم إن كانت توبتنا صحيحة ولا أعلم إن كنا نعود كل مرة إلى نقطة بدايتنا ولكنّ طبيعتنا البشرية لا تختلف، لسنا بمعصومين عن الخطأ ولكننا نعي تمامًا بأنه خطأ بحق الله وبحق ذاتنا

يخبرك بأنه حدثني لأسمَعُك، وناجيني لتجدني، وَاسألني استجب لك، بكل طمأنينة ولحظة أمان تجد خطواتك نحو صلاتك كانت قد رُسِمت، ووُضعت يدك اليُمنى فوق اليُسرى بحب، الله أكبر من كل تلك الهموم، الله أكبر من أولئك الحَمقى، ثم تبدأ رحلة حروف الفاتحة بالخروج، الواحد تلو الآخر، إلى أن تركع لتسبحه في عظمتهِ ثم تسجد له فتناجيه هناك وكأنك بين يَديه، تستشعر بوجوده فتنهمر دمعاتٍ مختلفة السبب، تبكي ثم تناجيه تبكي ثم تناجيه لحين ترفع رأسك فتسبحه بعالي عظمته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى اليمين تارة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى اليسار تارة أخرى، ترفع يديك لتخبئ وجهك بينهما، تحدثه بصوتٍ مُرتجف، بصوتٍ تائب إلى الله، بصوت المذنب العاصي، الله الله! ما الذي فعلته أنا بحق ذاتي؟ أنا الآن بين يديك فاسمعني، أنت تراني وأنا لا أراك لكنّك هنا دائمًا معي، الجميع خذلني فتركني ووحدك لم ولن تترك عبدًا من عبادك، الله أنا هنا بعد كل هذا البعد عن آخر سجدةٍ لي، أدعوك بكل أسمائك الحسنى أن تقبل توبتي وتعدني إليك عودة التائب بعيدًا عن معصيتك، الله كُن معي، وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد تختم بها مناجاتك، بكل هدوء تمسح تلك الدمعات وتسند ظهرك المنحني وتكمل سيرك مطمئنًا، فدعواتك رُفِعت والله وليّ التوفيق والمستجيب.

فتحاوطك رحمتهُ أينما وللت، ترافقك عنايته أينما اتجهت، وتوقن بعد كل ذلك أن ما حدث معك هو خيرًا لك، أبعدهم الله عنك لتستقيم، وجعلك تفشل لتنجح في أمرٍ أخر، إن بقيتَ هناك ستشقى لكنّ رحمتهُ وسعت كل شيء وألقت بك بعيدًا فنجوت. هو الله إن ظننت وشقيت، هو المُنجي إن غرقت، هو الحامي إن خِفت، وهو الملجأ إن ضِعت. تخطئ فيخبرك بكتابه الكريم (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (17)، يعدك بالغفران إن تبت، فعد إلى الله ولا تبالي.

 

لا أعلم إن كانت توبتنا صحيحة ولا أعلم إن كنا نعود كل مرة إلى نقطة بدايتنا ولكنّ طبيعتنا البشرية لا تختلف، لسنا بمعصومين عن الخطأ ولكننا نعي تمامًا بأنه خطأ بحق الله وبحق ذاتنا، إن لم نستطع بالابتعاد عن معصيته فلنبادر إلى التوبة كل مرة، فهو الله (غفور رحيم)، يغفر لمن يشاء، فلتكن دائمًا العبد التائب، فرحلة الحياة قصيرة، ستنتهي في لحظةٍ ما وربما الآن، لن ينفعك ندمك حينها، كما قال بكتابه الكريم (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، فبادر بتوبتك الآن واذهب إليه مسرعًا طالبًا لقربه، فهو الله لن يخذلك أبدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.