شعار قسم مدونات

مدونة التغيير.. من الجمود إلى النشاط

blogs إيني الإيطالية

وكما يحدث أن تدخل حضارة أو مؤسسة أو جماعة أو شركة أو علامة تجارية ما إلى عالم الجمود النشط أو المراوحة في المكان فإن بعضا من هذه المؤسسات والشركات والعلامات التجارية أثبتت قدرتها على العودة من جديد رغم أن سنوات طويلة مرت وهي طي النسيان أو دخلت إلى عالم التيه لعقود.

 

تمر الحضارات والشركات وغيرها بمراحل النشأة والنمو والتفوق والريادة حتى تصل أوجها ثم تبدأ رحلة الهبوط والسقوط الحر سواء كان اضطراريا أو بمحض إرادة القائمين عليها فيما يعرف ب (التدمير الذاتي)، لكن القليل من بين هؤلاء استطاع أن يوقف عملية السقوط الحر هذه في مرحلة ما قبل الوصول إلى القاع. عملية الاستدراك هذه تسمى (حالة اليقظة) وهي حالة قد لا تستمر طويلا إذا لم يتم استثمارها والبناء عليها للدخول في حالة جديدة وهي (عودة الروح أو اعادة الإحياء)، وإذا لم يتم استثمار تلك الحالة إيجابيا فللأسف يتم السقوط النهائي وعدم العودة إلى الحياة وهي مرحلة الموت الطبيعي وافساح المجال للغير لكي يحتل المكان دون منافسة (الاستبدال).

 

البعض يرى أننا الآن وبعد قرابة ثماني سنوات من ثورة يناير 2011 وخمس سنوات ونصف من انقلاب الثالث من يوليو 2013، البعض يرى أننا في مرحلة اليقظة والتي ليس أمامها سوى طريقين إما عودة الروح من جديد أو الموت التام والكامل لتبدأ مرحلة الاستبدال بآخرين بعد قرون وليس عقود. العامل المحدد في اتخاذ طريق العودة أو حتمية الفناء هو وجود القيادة المسئولة، من الذي سيأخذ بيد المؤسسة ومن الذي سيقوم بقيادة عملية الإحياء بعد أن ظن الكل أن المؤسسة في طريقها إلى الفناء، تلك هي المسألة. القادة التحوليون وحدهم بمقدورهم قيادة مرحلة انقاذ المؤسسات والشركات والدول من استكمال السقوط الحر والنهائي واعادة الروح وبدء عملية الإحياء التي تسمى Turnaround أي التحول.

 

القصة
لم تكن مسألة إعادة هيكلة الشركة الحكومية في الظروف السياسية أمرا صعبا بل كانت عملية معقدة، فإيطاليا في ذلك الوقت كانت مسرحا لعمليات فساد كبرى

في مقال نشرته دورية هارفارد بزنس ريفيو والمعروفة اختصارا بـ HBR في عدد يوليو – أغسطس 1998 دراسة أجراها كل من ليندا هيل وسوزي ويتلوفر حول قصة التحول التي قام بها فرانكو برنابي Franco Bernabe رئيس مجلس إدارة شركة (إيني) Eni الإيطالية والمتخصصة في مجال الطاقة. كانت الشركة مدينة بملايين الدولارات، مكدسة بالمدراء المعينيين لأسباب سياسية، مهيمن عليها من قبل الحكومة، تخضع سياساتها للسلطة الحاكمة ، ومهددة بالإفلاس والإغلاق لكنها لا تزال على قيد الحياة تستمع بالجمود النشط والحركة في المكان لأن الدولة لا تريد ذبحها ولأنه لا أحد يجرؤ على اتخاذ قرارات مهمة ومصيرية لإنقاذها فهي بين الموت والحياة أو في فترة اليقظة التي يمكن أن تتحول إلى الغفلة التي تتلوها الغيبوبة والموت أو أن تدخل مرحلة عودة الروح ، خياران لا ثالث لهما.

 

وفي ظل تعثر شركة (إيني) المتكرر وبعد تغيير الحكومة الإيطالية في عام 1992 تم ترشيح فرانكو برنابي لرئاسة مجلس إدارة الشركة ضمن فريق ثلاثي مع اثنين من كبار التنفيذيين بالشركة، وفور تعيينه واجه بارنبي إشاعات مغرضة واتهم هو أيضا بالفساد بعدما تبنى استراتيجية تحول كبيرة تحدى فيها ليس فقط قيادات الشركة وعناصر الفساد فيها بل والساسة المفسدين أيضا.

 

تعلم فرانكو الكثير من وجوده في الإدارة المالية والتخطيط على مدار تسع سنوات هي كل عمره في الشركة. من خلال وجوده في هذه الوظائف توفرت لديه معلومات عن حجم الإنتاج والمبيعات والرواتب ومصروفات التشغيل والأرباح والديون والقروض والمستحقات والسيولة المالية مما جعله منذ وصوله إلى قيادة الشركة على علم واطلاع بحقائق الأمور، لذا ارتكزت خطته للتغيير على معلومات وحقائق حتى يمكنه خوض المعركة دون أن يتهم بتسييس الإدارة. لكن فرانكو واجه الحرس القديم وواجه أصحاب المصالح ولم تكن الاجواء مؤاتية لتقبل أفكاره الإصلاحية ولا طريقته في التغيير، ولاعجب أن تعلم أنه تم خفض راتبه وموقعه الوظيفي مرة كما تم التفكير في الإطاحة به مرتين، ومع ذلك لم يرتدع ورأى أنه لا سبيل لإنقاذ الشركة إلا من خلال التغيير.

 

استمرت حملات النيل منه ووصلت إلى شن حملات إعلامية اتهمته بالخيانة والعمالة وبأنه جاء ليغرق سفينة (إيني) التي لديها 135 ألف موظف وعامل ولها حصص وأسهم في حوالي 335 شركة طاقة في 84 دولة حول العالم. إنها أشبه بالإمبراطورية الإيطالية التي تعد جزء من التاريخ والهوية الإيطالية. رأى المعارضون لفرانكو أنه لا يدرك قيمة الشركة وأهميتها السياسية بينما راهن فرانكو على خطته واعتبر أنه لا بديل عنها إذا أرادوا حماية هذا التاريخ و تلك الاستثمارات.

خطة التحول

كان فرانكو يعلم أن الساسة يراقبونه ويتابعون خطواته لأن الشركة تحمل رمزية كبيرة للساسة وكبار التنفيذيين لذا فقد قرر مع زملائه في (ترويكا الإدارة) عدة خطوات مهمة في إطار خطة التحول أو إعادة الهيكلة:

1- ترفع تقارير الأداء في الشركة إليه شخصيا.

2- استبدال مئات كبار المدراء التنفيذيين بآخرين من الصف الثاني ممن يؤمنون بأن شركة (إيني) يجب أن تكون شركة تجارية تتعامل بمعطيات السوق واحتياجاته وأهداف المساهمين وتطلعاته وليست مصلحة سياسية.

3- أشرك ولأول مرة منذ ثلاثين عاما الإدارة المركزية للشركة في العمليات التجارية لها.

4- قاموا بتوجيه كبار المدراء بإعادة النظر في الخطط الاستراتيجية لتناسب إعادة الهيكلة والقيم الجديدة للشركة واهداف التشغيل والأداء.

5- تخلص من الأعمال الجانبية وقام بالتركيز على المشاريع والمنتجات التي يمكن تسويقها ويحتاجها السوق.

التحدي الأكبر

لم تكن مسألة إعادة هيكلة الشركة الحكومية في الظروف السياسية أمرا صعبا بل كانت عملية معقدة، فإيطاليا في ذلك الوقت كانت مسرحا لعمليات فساد كبرى تم مواجهتها باجراءات أطلق عليها حملة (الأيدي النظيفة) والتي نالت من حوالي عشرين من قيادات شركة (إيني) تحت إدارة فرانكو نفسه، وشعر فرانكو بالدهشة عندما علم أن أحد كبار الموظفين في الشركة اشترى فيللا فخمة من الاختلاسات والرشاوى وصرح قائلا "شعرت كأب كان ابنه يتعاطى المخدرات وهو لا يدري، وبعد أن أدرك الأب حقيقة الموقف سأل نفسه: ماذا يتعين علي أن أفعل؟".

 

ازدادت الأمور سوءَ وقامت النيابة الإيطالية بغلق بعض مباني الشركة كي لا يتم سرقة المستندات والأدلة أو تسريبها خارج الشركة، شعر فرانكو كما لوكنت هذه التحقيقات قنبلة ستنفجر بين يديه، لكنه ورغم أن حملة (الأيدي) النظيفة دفعت الكثير من الشركات إلى الخروج من السوق إلا أن فرانكو لم يستتر على موظفيه بل دفع المتشككين والمتخوفين من الفضيحة إلى الاستقالة فورا، وصارح من تبقى معه من كبار المدراء قائلا " هذه فرصتنا لكي نتعامل بشفافية ونبني الشركة على أسس وقواعد وقيم النزاهة والشفافية".

 

هل نحتاج اليوم إلى قيادة تجيد الظهور الإعلامي ولديها كاريزما؟ أم نحتاج إلى قيادة لديها خطة وإرادة، وصمود في وجه التحديات الداخلية تماما كما يمكنها الصمود في وجه التحديات الخارجية؟
هل نحتاج اليوم إلى قيادة تجيد الظهور الإعلامي ولديها كاريزما؟ أم نحتاج إلى قيادة لديها خطة وإرادة، وصمود في وجه التحديات الداخلية تماما كما يمكنها الصمود في وجه التحديات الخارجية؟
 
هبوط وصعود (إعادة الإحياء)

بعد سنوات قليلة نجحت خطة فرانكو في عودة الحياة إلى شركة (إيني) من جديد، فقد زادت الإنتاجية بنسبة 113% وتحولت الخسارة التي قدرت عام 1992 بـ554 مليون دولار إلى مكسب يصل إلى 3 مليارات دولار في 1995، وانخفض حجم الإنفاق الرأسمالي إلى 1.3 مليار دولار كما انخفض الدين العام إلى 9.1 مليار دولار.

ومع تحسن أداء الشركة واستعادة الشركة الثقة في أدائها نجحت الشركة في جمع 5.2 مليار دولار عبر الاكتتاب العام لحوالي 1.2 مليون سهم. تكررت العملية وفي كل مرة يزيد سعر السهم تباعا. لم يكن فرانكو برنابي شخصية كاريزماتية ولا بالرجل الذي يحب أن يكون حديث المدينة بل يميل إلى العزلة أحيانا، وقد وصفه أحد زملائه بأنه أشبه بالجراح الهادئ الذي يبدو أحيانا بلا مشاعر". ولم يكن بالقيادة الكلاسيكية التي نقرأ عنها خصوصا في زمن الأزمات الصعبة بل يبدو كرجل ظل يتوارى عن الأضواء.

السؤال الحيوي؟

هل ثمة مقارنة بين بعض مؤسساتنا والوضع في شركة (إيني) قبل أن يقوم (فرانكو بارنبي) بعملية التحول الكبرى التي أعادت الحياة للشركة، والثقة للشركات الحكومية؟ هل نحتاج اليوم إلى قيادة تجيد الظهور الإعلامي ولديها كاريزما؟ أم نحتاج إلى قيادة لديها خطة وإرادة، وصمود في وجه التحديات الداخلية تماما كما يمكنها الصمود في وجه التحديات الخارجية؟

 

المسألة ليست مستحيلة فقد نجح فرانكو في تحويل (ايني) ذات 84 فرعا في 84 دولة حول العام وعشرات الألوف من العاملين حول العالم أيضا، نجح في اعادة الروح إلى الشركة، وإعادة إحياء المؤسسة وتحويلها من الانهيار إلى الربح والنجاح. الأمر ممكن جدا لو اتخذنا قرارا حاسما بالبدء في مرحلة التغيير. نواصل معكم في مدونة التغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.