شعار قسم مدونات

الوردُ لا يُؤتَى به مقتولا!

blogs حوار

انصحه لمرة واحدة، إن لم يستجب دعّه.. سيحاسبه الله وحده، أما أنت فقد قمت بدور النصح. هكذا يُقال دائماً عندما نشاهد منكراً يتحول شيئاً فشيئاً إلى ظاهرة اجتماعية مقبولة ومعتادة. الجملة كارثية، ليس لأنها تقزم دور النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط.. تقزمه بجعله مهمة إسقاط واجب، ليس هذا فحسب بل تنزع من الأمة الخير. قد يقول القائل: كفاك تهويلاً وتدخلاً في مالا يخصك، دع الخلق للخالق، أي خير هذا الذي ينزع بجملة كهذه؟!

اجيبه بأنه يغرق في السطحية، ويبرر أهوائه ويجعل من نفسه أيقونة تحمل أوزار الخلق وسيحاسب يوم البعث وسيذكر حديثي هذا. الأمر يتضح بحديث نبوي وآيتين من القرآن. الحديث هو "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". رواه مسلم. الرسول ﷺ حين يقرن الدين كله بقيمة واحدة، إذن القيمة هذه محورية، يقوم عليها المجتمع ويسقط حين تسقط. من جديد.. الدين كله هو النصيحة، وهو ترسيخ لأحد سنن الله في الكون سنة التدافع، حين يدفع الله الحق بالباطل. هنا ندرك أن الأمر يستحق التضحية بالجهد والمحاولة أكثر من مرة وليس إسقاط واجب فقط.

النصح لا يقتصر عند حقوق الله عندما تنتهك، ولا عند الاعتداء على رسول الله، الأمر أوسع من ذلك بكثير.. حتى أنه يصل إلى عامة المسلمين، وعند الحديث عن العامة، ندرك أننا نتحدث عن تفاصيل لا نلقي لها بالاً ولكنها تهوي بنا سبعين خريفاً في النار وفي ميدان التقدم والحضارة.

بسبب التقزيم لقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشرت ثقافة غالبة.. الثقافة هذه تجعل منه أمر عابر وسطحي، في نهاية الأمر كلنا آتيه يوم القيامة فردا!

أما الآيتين…فالآية الأولى (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) الخير في الأمة مقرون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التخلي عنه وتحويله إلى فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الباقين.. ينزع الخير من الأمة. الآية الثانية.. (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) أولو بقية، الحديث هنا عن البقاء، أنت تبقى ببقاء الأمر بالمعروف وببقاء النصح، الحديث ليس عن فعل خيري وقيمة تتمثلها الأنفس الكريمة فقط.. بل عن البقاء، حيث أن بقائنا مرهون ببقاء هذه القيمة.

بسبب هذا التقزيم لقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشرت ثقافة غالبة.. الثقافة هذه تجعل منه أمر عابر وسطحي، في نهاية الأمر كلنا آتيه يوم القيامة فردا! الثقافة تقزم قيمة مهمة في جملة واحدة، ظريفة، مؤلمة، طفولية التعبير في الوقت ذاته. الجملة "قول له كخه، فإن فهم أن الأمر كخه كان بها، وإن لم يفهم فقد قمت بدورك". إذا كان الأمر بهذه البساطة، لمَّ قام الله بإرسال هذا العدد من الرسل؟! كان سيكتفي برسول واحد، يوصل للبشرية ما هو " الكخه" وما هو الجيد، ثم بعد ذلك يحاسبنا فُرادى.

الأمر ليس بهذه البساطة، في كل واحد منّا ميل متساوي للخير والشر، لسنا خير محض، ولا شر محض. حين يطغى جانب على الآخر، لطف الله ينجينا من شرنا الداخلي، ويردنا إليه بذلك الصوت.. صوت الفطرة حين يصحو، وصوت الحق حين يصدح من أفواه المصلحين. بالمناسبة هذه الأصوات التي تسعى جاهداً لإسكاتها.. هي حجة، حجة للمصلح وحجة عليك. (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).

تحدثت عن النصح وأنه قيمة نحتاجها لنبقى، ولكن! الأمر يتطلب حكمة، وعي، وإدراك. بداية لابد أن نعرف أنه خطاب إصلاح، وليس خطاب تهديد وتوعد واحتقار. خطاب الإصلاح، خطاب ودّ، وكلمة طيبة.. خطاب عن الله عز وجل فكيف يكون خطاب شديد وبغيض؟! "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ". الآية موجه للرسول ﷺ وهو مؤيد تأييد رباني، ومع ذلك لو كان فظاً لانفضوا من حوله، ذلك أن النفس البشرية كما هي، لم ولن تتغير، جُبلت على حب اللطف وكره الفظاظة.

ثم أن الرسالة رسالة رحمة، أتعلم معنى الرحمة؟! شعور لا يأتي إلا بخير، أشمل وأعمق من الحب، الحب له ضد الكره، أما الرحمة فلا ضد لها، حين تتملك النفس.. يصبح الإنسان ودوداً من حيث لا يشعر. وكما يقول الشاعر:

‏"لا تقطف الوردَ الجميل بمِنْجَلٍ
فالوردُ .. لا يُؤتَى به مقتولا

إن كنت تُبدي للصديق نصيحةً
فاجعل لهُ لطفَ الحديثِ رسولا"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.