شعار قسم مدونات

كيف يمكننا الاستفادة من تراثنا الإسلامي بعد سنوات من الركود؟!

blogs مكتبة إسلامية

مر على تراثنا حِقبٌ عَرف فيها شروقا مع فجر الإسلام إلى القرن الثاني الهجري، ثم زوالا عرف فيها ازدهاراً ورقياً حيث تأسست فيه العلوم وجمعت ودونت لتتخذ شكلا ونوعا من الاستقرار في كل جوانب العلوم، ثم أفولا بدأت إرهاصاته مع القرن الخامس الهجري ليتخذ نوعاً من الجمود والركود وعدم إضافة أي جديد، اللهم ما من شروح وحواشٍ واختصاراتٍ جعلت من العلوم مقيدة بما بث فيها من قيود ورموز وتعريفات منطقية جعلت منها حبيسة الكتب ولا تتعداها إلى إضافة أي شيء جديد. فكيف ننظر الآن إلى تراثنا الإسلامي بعدما مر عليه سنوات وهو قابع تحت غبار ما يُسمي بعصر الركوض والجمود والاقتصار فقط على ما خلفه السابقون؟ وما هي الأدوات والأساليب التي نتعامل بها مع تراثنا كي نفهمه فهما سليما يكون بمقدورنا أن نتلمس ونتتبع ينابع نتمكن من خلالها ضخ مفاهيم جديدة منه في شرايين مجتمعاتنا؟

ما يميز تراثنا إشكالية أقل ما يمكن أن أقول فيها إنها إشكالية "الصعوبة" صعوبة الوصول إليه وفهمه فهما سليما، ليس الوصول إليه بمعناه أنه ليس هناك كتب ومصادر نرجع إليها وإنما صعوبة الوصول إليه في الرؤية والطريقة التي يمكن أن نتمشى عليها ونتعامل بها مع ضخامة هذا التراث الذي تشكل عبر سيرورته التاريخية حتى وصوله إلينا، فكل يدعي أن له طريقة وكيفية يتعامل بها معه هي كفيلة بفهمه فهما سليما.

لكن إذا نظرنا إلى هذه الطرق نجد أنها لا تخرج عن كون من يَدْعي إلى الطريقة التقليدية القديمة ومن يَدْعي إلى الطريقة التجديدية الحديثة وإن اختلفت الوسائل إلى ذلك، يبقى الإشكال المطروح هو في تفسير هذه الطرق القديمة منها والحديثة، هل معنى ذلك أنه لفهم تراثنا لابد من طريقة تقليدية هي من تعامل بها من سبقنا مع التراث؟ أم أنه لا بد من طريقة جديدة وترك ما هو تقليدي وقديم مدعين بذلك أنها أحدث طرقية ومنهجية وصل إليها العلم الحديث في القراءة؟ 

أهل التحديث والتجديد يلقون بالمسؤولية على من بات متمسكا بكل ما هو تقليدي وقديم، فهم في نظرهم لا يقدمون شيئا سوى اجترار وتكرير ما قاله السابقون ليكونوا بذلك هم في واد والمجتمع في واد آخر

دعنا نرجع إلى الوراء قليلا ننظر في تسلسل هذه الرؤى وما مدى مصداقيتها حتى يمكن أن نقول هي الطريقة المثلى في تعاملنا مع التراث. أهم خَلفيةِ هذه الرُّؤى هي ما يمكن إرجاعه إلى العصر العباسي وبداية الترجمة للعلوم اليونانية وخاصة منها الفلسفية والمنطقية، فهي كانت بداية ظهور فريقين مُيِّزا عن بعضهما في تعاملهما ورؤيتها نحو التراث، فريق ظل متشبث بكل ما هو إسلامي مبينا أنه لا سبيل إلى فهم تراثنا إلا من أدواتنا ومعارفنا، وفريق آخر انبهر وأعجب بكل ما هو جديد ووافد على البيئة الإسلامية، فركبوا ركب الجديد وجعلوا منه مطيا للوصول إلى المعرفة ومعيارا للتعامل مع العلوم، مبرزين أهمية ذلك في عقلانية هذا الوافد الجديد. 

ومع بداية جيل رشيد رضا ومحمد عبده وغيرهم ممن اعتبروا من الصحوة الإسلامية برز ما قلناه أيضاً إلى العيان حيث اعتبر هؤلاء أنه لا نهضة لنا إلا بإحداث تغيير في نظَرِنا للتراث، ولا بد في ذلك من إدخال وسائل ومنهجيات جديدة وفدت مع الدخول المستعمر الغربي للمشرق العربي، ورأوا أنه للحاق بهؤلاء لا مناص لنا من اتخاذ ما جاءوا به. ومن ذلك إلى هنا ظهرت مفاهيم ورؤى جديدة أيضا بحكم ما يَعرفه الجانب المعرفي من أدوات ومناهج يُتَعامل بها مع القراءة باعتبارها أداة رئيسية لفهم ما كتب من حولنا، وآخر هذه الأدوات والوسائل هي ما يتعلق بالعلوم الاجتماعية والإنسانية حيث رأوا أنه لا بد من قراءتنا للتراث بمنظور هذه العلوم.

ويبقى كل من الطرفين على نقيض الآخر إذ أن أهل التحديث والتجديد يلقون بالمسؤولية على من بات متمسكا بكل ما هو تقليدي وقديم، فهم في نظرهم لا يقدمون شيئا سوى اجترار وتكرير ما قاله السابقون ليكونوا بذلك هم في واد والمجتمع في واد آخر، ويأتي دور هؤلاء ليلقوا بالمسؤولية أيضا على أهل التحديث والتجديد، فهم من بداية بروزهم إلى اليوم يحملونهم مسؤولية هذا الفصام الذي وقع بيننا وبين تراثنا، معتبرين إياهم أنهم أدخلوا شيئا لا يوائم تراثنا وما لدينا من علوم بله فهمها وإخراجها في ثوب جديد يلائم طياتنا في ظل عصر الموضة في كل شيء.

وزيادة على ذلك اعتبر بعض الكتاب أن كل ما قدمه المحدثون بمنظورهم للتراث لا يرقى سوى كونه تطويع للنصوص وحملها على محمل يوافق نظرياتهم ورؤاهم وهم يتعاملون مع التراث، فهم بذلك يكونون خادمين لما جاؤوا به، وفي الوقت نفسه يكونون لهم سند يرجعون إليه حتى لا يُقذَفوا بعباراتٍ ربما تخرجهم من دائرة عدم معرفتهم بشيء من التراث الإسلامي بتاتا فكيف لهم أن يفهمونه. فنحن نرى من كل ما سبق أنه دائما كانت هناك رؤيةٌ ضبابيةٌ في كيفية رؤانا وقراءتنا للتراث، فأيهما نعتمده ونتخذه دربا نسلكه للوصول إلى تراثنا والتصالح معه من جديد حتى نلمس منه الجانب المشرق – وهو كثير- يكون بمقدورنا معه أن يُحدِث كل في الآخر تأثيرا، ويكون بمقدورنا أيضا أن نجعل منه شمساً أخرى تسطع على الآخر، وهو ما سنحاول إبرازه والكشف عن مغطاه في تدوينة أخرى إن كان للعمر بقية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.