شعار قسم مدونات

مِن مَهدِ الثورةِ إلى مَحشَرِها

مدونات - الثورة السورية سوريا علم

لم يكن أشدُ المتشائمين بفصائل المعارضة المسلحة في حوران، يتوقع الانهيار الكامل والسريع لفصائل مهد الثورة، خاصة القسم الشرقي من المحافظة، والذي يمكننا القول أنه من قاد عملية الانهيار وتسليم درعا لروسيا وميليشيا أسد دون قتال، فشرقُ حوران يخضع بالكامل لسيطرة "أحمد العودة"، قائد ما يسمى "قوات شباب السنة"، التي نشأت كسرية بدعم إماراتي وما يقدم من تبرعات، نتيجة تقديم الفصيل كأحد مكونات الجيش الحر، ولكن بصبغة إسلامية معتدلة وإن شكلاً لا مضموناً.

 

تماما كما حدث في العديد من مناطق سورية، أسماءٌ إسلامية لكنها بلا عقيدة، لينجح لاحقاً بإنهاء وجود الكتائب الأخرى التي لم تستطع مجاراة ما يصله من دعم، فسيطر على مدينة بُصرى الشام رغم التجاوزات الكثيرة التي مارسها في السر والعلن، هذه الممارسات التي لم تتكشف أمام الرأي العام إلا بعد ثورة أبناء المدينة عليه إثر ازدياد المداهمات وإطلاق النار وانتهاك الحُرمات وترويع وإهانة الأهالي، لتتكشف معلوماتٌ في غاية الأهمية والخطورة تمثلت بوجود معتقلات سرية وعمليات تعذيب وتصفية للمعارضين.

فصائل عديدة من حوران على رأسها "حركة المثنى الإسلامية" شاركت في تحرير مدينة بُصرى الشام، إلا أن الأمر استتب في النهاية للمدعو "العودة" نسيب خالد المحاميد، عراب عملية تسليم حوران، حيث كان صرح للقدس العربي قبل التسليم بأسابيع قليلة أنه مع بسط سيطرة نظام الأسد على كامل الأرض السورية. سيطرة "العودة" رجل الإمارات والموك لم تقتصر على شرق حوران، بل تعدتها للقسم الغربي حيث جند عدداً من الفصائل، خاصة تلك الموجودة في القرى التي أنجبت "حركة المثنى" كـ بلدة "إنخل" وذلك انتقاما منها ومنعا لظهور فصائل جديدة قد تعرقل عملية تسليم المنطقة.

أواخر الشهر التاسع من العام 2015 بدأت روسيا عدوانها المباشر على الشعب السوري، وبدا واضحاً تأثير اجتماع موسكو على فصائل الجنوب التي صمتت جبهاتها

من المهم الإشارة إلى أن فصائل الجنوب السوري كانت تتبع غرفة عمليات الموك، باستثناء "جيش خالد بن الوليد" (حركة المثنى الإسلامية و لواء اليرموك) إضافة لهيئة تحرير الشام التي حصلت ولسنين، على حصة من الدعم المقدم لفصائل المعارضة بشكل مباشر وغير مباشر، منذ بداية تشكيل المجالس العسكرية مرورا بعهد أحمد النعمة قائد المجلس العسكري في درعا، والذي يقال أن "بشار الزعبي قائد جيش اليرموك هو من سلمه للجبهة، وصولاً إلى "العودة" الذي وبفضل صهره "المحاميد" أصبح رجل الموك في حوران.

بعد تهميش "الزعبي" الذي كان استفاد بدوره من الدعم المقدم للجنوب السوري إبان ترؤسه لما يسمى غرفة عمليات الجنوب، ليوجه معظم الدعم المقدم للفصائل لتشكيل جيش خاص به، إضافة لما كان يجنيه من سيطرة على المعابر وتسليم الأسلحة النوعية التي تم اغتنامها من جيش الأسد لغرفة الموك خاصة الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات، عدا عن الدعم العشائري المقدم لفصيله الذي أصبح أكبر فصائل المعارضة في حوران. "الزعبي" تحول لرجل أعمال بعد أن كان سائق باص، مثلما حدث مع المغمورين من أبطال تسليم الأرض والسلاح.

معظم فصائل الجنوب كانت ممولة إماراتياً وسعودياً بشكل شبه كامل، وتخضع لإشراف مخابراتي أردني مباشر، تولى مهمة تحريك الفصائل وضبط إيقاع عملياتها وبما يتناسب مع الدور المطلوب منها لتتوقف عن خوض أي معارك ضد نظام الأسد بشكل كامل بعد اجتماع موسكو الرباعي الذي ضم كل من (روسيا – مصر – الأردن – الإمارات) وعقد في الشهر الثامن من العام 2015 لتلتحق السعودية بالمحور الجديد بعد زيارة ولي عهدها الجديد إلى موسكو.

أواخر الشهر التاسع من العام 2015 بدأت روسيا عدوانها المباشر على الشعب السوري، وبدا واضحاً تأثير اجتماع موسكو على فصائل الجنوب التي صمتت جبهاتها بل وقامت بتسليم مدينة "الشيخ مسكين" وما حولها وصولا إلى بلدة "عتمان" على مشارف مدينة درعا، حدث هذا بعد سلسلة اغتيالات مدبرة نفذت وألصقت تهمتها بفصائل ذات توجه إسلامي مثل "حركة المثنى" و"لواء شهداء اليرموك" الرافضين للانضمام لغرفة الموك، فتم دعشنتهما واتخاذ الأمر حجة لعدم الدفاع عن مدينة "الشيخ مسكين" التي سقطت بعد أن تم استنزاف المدافعين عنها وهم قلة.

استنزاف الفصائل الإسلامية والمجموعات الراغبة بقتال نظام الأسد، حدث أيضا في معارك درعا المدينة والكتيبة المهجورة، حيث تم توريطهم بالمعارك مع تقديم شيء من السلاح والعتاد لهم إيهاماً للرأي العام بالمشاركة، ثم تركهم وحدهم دون مؤازرة أو دعم، ولو من خلال قطع طرق إمداد ميليشيات أسد المحاصرة في المدينة، علماً أن خطوط إمدادها وطرقها الحربية، إما مرصودة نارياً أو تمر في أراضٍ تسيطر عليها الفصائل، الأمر الذي يرقى لمرتبة الخيانة العظمى.

المحتل الإيراني يجهد بعملية فرسنة الشام وتغيير ديموغرافيتها، لتحويلها من إحدى أهم حواضر العروبة والإسلام لمجرد مقاطعة فارسية وقاعدة انطلاق صفوية
المحتل الإيراني يجهد بعملية فرسنة الشام وتغيير ديموغرافيتها، لتحويلها من إحدى أهم حواضر العروبة والإسلام لمجرد مقاطعة فارسية وقاعدة انطلاق صفوية
 

بعد سلسلة اجتماعات قيل إنها مفاوضات فاشلة بين الروس وممثلين عن كبريات فصائل المعارضة في درعا، أعلن "العودة" عن توصله لاتفاق مع الروس لتسليم ما يسيطر عليه من أرض، حيث قضى الاتفاق بتسليم منطقة شرق حوران إضافة للسلاح الثقيل والمتوسط، مقابل تعهد الجانب الروسي بعدم دخول ميليشيا أسد للمناطق التي اتفق على تسليمها، لكن لو تأملنا في الأمر عمليا لوجدنا أن ميليشيات أسد كانت أضعف من أن فرض سيطرتها على هذه المناطق عدا عن تأمينها.

لقد كانت الرسائل الواردة من درعا ونتيجة لتصدي بعض الفصائل لميليشيات أسد، تفيد بأنه عاجز عن إحراز أي تقدم، وأن قتلاه وجرحاه بالعشرات، لكن ومع ذلك نجحت قواته بالوصول إلى معبر نصيب بعد تفريغ المنطقة من الفصائل العاملة فيها وفتح الطريق الحربي المحاذي للحدود مع الأردن والواصل بين السويداء ومعبر نصيب، ليعلن أسد سيطرته على المعبر الحدودي، ليعلن الأردن عن ترحيبه وسروره بالحدث الهام.

لقد مثلت مسرحية سقوط حوران دون قتال ضربة قاصمة للثورة السورية، أدت لوأد أحلام الشريحة الثائرة بالتحرر من الحكم الأقلوي الطائفي رغم تقديمها التضحيات الجسام على مدى 8 أعوام، حدث ذلك نتيجة إحكام السعودية والأمارات قبضتهما على القرارين السياسي والعسكري للثورة، فبدأت معظم الفصائل بتسوية أوضاعها والعودة لحضن الأسد، الذي زج بالمئات من عناصرها في معارك بادية السويداء، ضد ما تبقى من مجموعات تتبع تنظيم الدولة، بعد إجلائها من منطقتي مخيم اليرموك بريف دمشق وحوض اليرموك في حوران.

المفارقة المذهلة تمثلت بالجهود الهائلة التي بذلها الروس وعرابو المصالحات والتسليم لإقناع عناصر الفصائل بعدم ترك حوران باتجاه إدلب وهو ما يفسر الأعداد القليلة نسبيا التي فضلت الخروج من حوران، فقد كان الهدف استخدامهم مرتزقة لدى ميليشيات أسد الذي لم يتأخر كثيراً قبل البدء بعمليات التجنيد والاعتقال والتصفية، فالهدنة لم تدم سوى وقت قصير، كان عبارةً عن حفلة إذلالٍ لأهل حوران، من خلال الاحتفالات التي نظمها عملاء أسد وأدواته في المحافظة.

إدلب اليوم تواجه صراعات خفيةً تارة وعلينةً تارةً أخرى، وذلك نتيجة تنافر الأجندات بين معسكري القتال والتسليم الذي لا يبدو أنه وشيك الحدوث رغم الجهود الممهدة له
إدلب اليوم تواجه صراعات خفيةً تارة وعلينةً تارةً أخرى، وذلك نتيجة تنافر الأجندات بين معسكري القتال والتسليم الذي لا يبدو أنه وشيك الحدوث رغم الجهود الممهدة له
 

مع تسليم درعا، أُسدِلَ الستار على فصل مهم من فصول الثورة السورية، التي تحولت لتغريبة إنسانية فريدة من نوعها، فالمحتل الإيراني يجهد بعملية فرسنة الشام وتغيير ديموغرافيتها، لتحويلها من إحدى أهم حواضر العروبة والإسلام لمجرد مقاطعة فارسية وقاعدة انطلاق صفوية، تؤمن له استكمال عملية فرسنة وتشييع العراق وتغريبه عن دينه وأمته.

مثلما أن حوران قد استحقت لقب مهد الثورة، فإن إدلب تستحق لقب محشرها، كيف لا وهي التي حشر فيها شتات عشرات ألوف الرافضين للمصالحة والبقاء تحت سيطرة ميليشيا أسد، وهو ما يفرز استنتاجاً منطقياً يقول: بما أن من حُشِرَ في إدلب وعلى اختلاف اطيافهم، هم خلاصة الرافضين لنظام أسد، فمن الطبيعي أن يكون هدفهم الرئيس جعلها منطلقا لقتاله وإسقاطه وصولا لتحرير سورية، وليس الانصياع لهدن وتفاهمات هدفها تسليم ما تبقى من محرر.

نظريا ومن خلال أحداث ما بعد تسليم الغوطة ودرعا، فإن إدلب أمام سيناريوهين، اجتياح وتسليم أو تأجيل الحسم بانتظار تسوية شاملة، ربما لن تحدث نظرا لعدد رافضي التسوية والعودة للحظيرة، والذين سيشكلون رافعة مستقبلية لاستئناف معارك التحرير، فالقمعُ والتشييعُ والفلتان الأمني والاعتقالات وتجاوزات ميليشيات أسد في أوجها، أما فيما يخص مناطق ريف حلب فهي في عهدة فصائل درع الفرات الحاضرة لتنفيذ ما يطلب منها، والتي لا تقل تجاوزاتها وفسادها سوءاً عن ميليشيات قسد وأسد.

إدلب اليوم تواجه صراعات خفيةً تارة وعلينةً تارةً أخرى، وذلك نتيجة تنافر الأجندات بين معسكري القتال والتسليم الذي لا يبدو أنه وشيك الحدوث رغم الجهود الممهدة له، من تفاهمات ومناطق خفض تصعيد، وما يحدث من تفجيرات واغتيالات واقتتال على المعابر والسيطرة، وهو ما عقد الوضع، ومع ذلك فالرافضين للتسليم كثر ولا يمكن إقصاؤهم بسهولة، لهذا تأجل الحسم لعام آخر، ربما بانتظار إقصاء أو استنزاف رافضي التسوية والتسليم، إضافة لتهيئة الحاضنة الشعبية بإنهاكها من خلال القصف المستمر لدفع الناس للقبول بما يقدم لهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.