شعار قسم مدونات

عزمي بشارة في سياقات النهضة

عزمي بشارة

عند البحث بين دفات كتب المفكرين العرب والاطلاع على مؤلفاتهم بدءًا من مفكري القرن التاسع عشر (بطرس البستاني، عبد الرحمن الكواكبي…)، وصولاً إلى المعاصرين منهم (الجابري، عبد الله العروي، برهان غليون…) إلى الوقوف عند المفكر عزمي بشارة، تجد أنه أجاب على المسألة العربية باقتدار وليس غريباً أن كان "في المسألة العربية" عنواناً لأحد كتبه الأولى الذي يعبر فيه عن هواجسه من الواقع العربي وبذلك أيضاً فتح الباب أمام جموع المثقفين والباحثين في تحديد المشكلات المركزية العربية، وحتى بعد الموجة الأولى من الثورات العربية أثبت الكتاب راهنيته في المشكلات التي كتبها عن الدولة العربية والتحول الديمقراطي والنخبة والقبيلة والهُوية. ولا شك أنه مثقف عربيّ استثنائي يسخّر كل أدواته العلمية والمعرفية من أجل القضايا العربية الراهنة.

فولتير عربياً

كتب جورج طرابيشي في نهاية كتابه مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام أن "العرب بحاجة إلى ثورة فلسفية على الطريقة الفولتيرية" وليس مبالغةً لو أطلقنا على بشارة هذا اللقب –بالرغم من اختلاف معالجاتهما- لكن لو أخذنا "التأثير" وجهاً للمقارنة فذلك ليس شططاً، وخصوصاً التأثير المعرفي والتنويري الذي يدشن لحقبة جديدة. يشكل بشارة في مؤلفاته نقطة تحول عند الكثير من المثقفين والباحثين فهو يضغط بقوة للفت النظر إلى التساؤلات الأساسية في السياسة والاجتماع؛ فما هي الأزمة وعلى ماذا نشتغل؟

 

ذلك جليٌّ في كتاباته العلمية إذ يُعيد للمسألة العربية أهميتها بعدما توجه الكثير من المفكرين العرب إلى التراث ونقد الحداثة وما بعد الحداثة فنقد الحداثة وما بعدها في بلادٍ لم تعرفها تُعتبر "تقليعات" –بتعبير بشارة- تشتت الانتباه عن النقاش المركزي. مع عدم إنكار أهمية ما قام به عدد من المفكرين العرب الذين انشغلوا بالواقع العربي وقدموا إسهامات غنية في هذا الشأن مما يتكامل مع مشروع مفكرنا الكبير عزمي بشارة، وهذا ما رمى إليه هربرت سبنسر حين اعتبر أن التحول الحضاري لا يتم إلا بيد حكمة جماعية يدشنها المفكرون.

المشروع النهضوي
يصنع بشارة مضامين جديدة لمفاهيم متداخلة الحقول المعرفية كـ (المجتمع المدني، الدين والعلمانية، المثقف، الثورة، التطرف، الحرية، الطائفية، السلفية…) ليجعل منها عُدة مفهومية جديدة للباحثين

في الحديث عن نهضة الأمة سنجد أن توافر بيئة علمية يُعد مقوّماً مهماً من مقومات تلك النهضة، لذا عكف بشارة منذ سنوات على تأسيس عدة مشاريع أكاديمية وثقافية، كان أبرزها تأسيسه للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أحد أهم المراكز البحثية في العالم العربي مما له من دور في الاشتباك مع الإشكاليات المحورية التي تقف عائقاً أمام النهضة والإصلاح العربي من خلال مؤتمراته ومجلاته العلمية، عدا عن خلق بيئة عروبية يجتمع فيها عشرات الباحثين من المحيط إلى الخليج.

وفي نفس السياق العلمي، أقام بشارة معهد الدوحة للدراسات العليا الذي يخرّج العشرات من الباحثين بمختلف العلوم الاجتماعية والإنسانية، ما يخلق اتساعاً لرقعة الباحثين أصحاب الهمّ العربي مِمن يمتلكون المعرفة لدراسة مجتمعاتهم والتأثير فيها من خلال بيئتهم المحيطة.

أما المعجم التاريخي للغة العربية فيعتبر مشروع حضاري بذاته والذي يؤسس للذاكرة اللغوية والمفهومية للغة العربية، وليمكّن الأمة من فهم لغتها وتراثها الفكري والعلمي والحضاري، فالمعجم يكوّن هويتها ويأذن بسيادتها ويربط حاضرها بماضيها، ولأن نهضة الأمة وروحها وضمان استمراريتها في اللغة؛ جعل منظرو القومية العربية الأوائل يعتبرون مسألة اللغة العامود الأساس لبناء الأمة، وقد عبر ساطع الحصري في كتابه (ما هي القومية؟) أن "اللغة روح الأمة وحياتها".

الطريقة النهضوية التي يصنعها عزمي بشارة تمثل بر الأمان للأجيال العربية من خلال الديمقراطية وبناء أمة المواطنين والعدالة الاجتماعية وثقافة متقبلة للآخر متفاعلة مع العالم الخارجي لتؤثر وتتأثر بالثقافات الأخرى
الطريقة النهضوية التي يصنعها عزمي بشارة تمثل بر الأمان للأجيال العربية من خلال الديمقراطية وبناء أمة المواطنين والعدالة الاجتماعية وثقافة متقبلة للآخر متفاعلة مع العالم الخارجي لتؤثر وتتأثر بالثقافات الأخرى
 
المهمة الأكاديمية

لربما تشكل الطريقة العلمية التي يشتغل عليها بشارة في أبحاثه أسلوباً متمايزاً عن معظم المفكرين والباحثين، فاعتقاد بشارة أن الكثير من المفاهيم يعتريها النقص التاريخي والمراجعة العلمية في سياقنا ويحيط بها كثافة أيديولوجية مفرطة؛ جعله يحمل على عاتقه مهمة أكاديمية شائكة الطريق، فتلك المفاهيم التي درسها وأعاد ضبطها من جديد -بعدما كانت مفلتة العقال- تُعد أخطر المفاهيم في الواقع العربي المعاصر وكأنه يذكرنا بقول روبرت فروست "إنني أسلك الطريق الذي لا يسافر فيه سوى القلائل".

 

هنا يصنع بشارة مضامين جديدة لمفاهيم متداخلة الحقول المعرفية كـ (المجتمع المدني، الدين والعلمانية، المثقف، الثورة، التطرف، الحرية، الطائفية، السلفية…) ليجعل منها عُدة مفهومية جديدة للباحثين المشتغلين في مختبرنا الكبير متخلصين من المفاهيم الاستشراقية، ذلك عدا عن "ثلاثية" الثورات العربية الذي يظهر فيها بشارة كمؤرخاً يُبدي قلقه اتجاه المستقبل من عملية تأريخ اللحظات الأولى من عمر الثورة بذاك يكون قد أبطل محاولات أصحاب العقول المؤامراتية ومثقفي الأنظمة من تشويه السردية التاريخية لتلك الثورات.

إن الطريقة النهضوية التي يصنعها عزمي بشارة تمثل بر الأمان للأجيال العربية من خلال الديمقراطية وبناء أمة المواطنين والعدالة الاجتماعية وثقافة متقبلة للآخر متفاعلة مع العالم الخارجي لتؤثر وتتأثر بالثقافات الأخرى، وأنتهي بما ختم به بشارة حديثه لصحيفة لوموند الفرنسية "ما زلت أؤمن بانبعاث العالم العربي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.