شعار قسم مدونات

التبعية والعرب.. هل سيبقون رفاق الدرب والتاريخ؟!

blogs شطرنج

من أعالي ضفاف المحيط الأطلسي غرباً إلى بحر العرب والخليج العربي شرقاً، أرهقت العصابات الحاكمة شعوبها بعدة أشكال قمعاً واغتيالاً ونفياً، وأرهقت ذاتها وهي تدافع عن شرعية مفقودة بأدوات تفتقر إلى الشرعية. عصابات عنوان تدبير وتسير شؤون شعبها فرق تسد وغايتها الأزلية إدخال الشعوب إلى زريبة الطاعة ولو على حساب دمائهم، ولنا في حراك الخريف العربي حكمة ما ورائها حكمة. كل هذا وأكثر أنتج لنا الفشل الذريع والتبعية العمياء والطاعة المتجددة فصدقوني أن لُب الخلل لدينا في رقعة الخراب هذه، خلل بنيوي لكن أساسه التبعية على مختلف المشارب.

وهنا نضع جدلية الفيلسوف الأماني جورج هيغل التي سبر غوارها في كتابه ظواهرية الروح من أوجد من.. العبد أم السيد.. هل السيد من صنع العبد نتيجة لسلوكه العبودي أم العبد من صنع السيد نتيجة لاستبداده؟ وبمعنى أكثر وضوحاً هل ستبقى التبعية والعرب رفاق الدرب والتاريخ. فالشأن الاقتصادي الذي يرزخ تحت مطرقة الديون الخارجية التي لا تزال عالقة في الأفق، مع تراكم المديونيات وتضاعفها عدة مرات خلال الأربعين سنة الماضية. فبعد أن كانت الديون الخارجية للدول العربية مجتمعة تساوي ما يقارب 66.3 مليار دولار عام 1980 يتوقع أن تصل إلى 667 بنهاية 2017 ويتوقع أن تستمر بعض الدول العربية في السحب من احتياطاتها المالية للإيفاء بمتطلبات التنمية.

كما أن الديون الخارجية تزيد من التبعيّة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية للدول المدينة، وكمثال حي على ذلك فقد تمَّ إخضاع الدول للقرارات الاقتصادية والسياسة التي تتوافق مع مصالح الدول الدائنة. بالإضافة إلى فرض نوع من الرقابة والتدخلات في الشؤون الداخلية مصحوبًا بهجرة رؤوس الأموال المحلية. وأيضاً الخضوع للنظام الرأسمالي الدولي من خلال اندماج المؤسسات المالية العربية بالنظام الدولي، مما عَرَّضها لمخاطر التجميد من قبل الحكومات الغربية. وهذا سبق وحدث لعدة دول عربية مع إمكانية تعرضها لخطر المقايضة، وذلك بمبادلة الدَّين الخارجيّ بحقوق الملكية في مشروعات حيوية تملكها الدولة.

أن الدولة الضعيفة لديها رؤى وقناعات سياسية لكنها مجبرة على التخلي عنها بسبب هيمنة الدولة المتبوعة، وبهذا عاش المواطن العربي زاحفاً لاهثاً وراء تحصيل لقمة عيشه.

في ظل هذا الوضع الاقتصادي المتدهور والغير حر وغياب مشروعات التنمية الحقيقية، عانت الشعوب العربيّة الفقر والبطالة والتهميش والهدر لطاقاتها وكفاءاتها، ووقعت ضحية قلق وجودي واستلاب. وكان هاجسها اليومي هو إشباع حاجاتها الأولية كالحاجة إلى مأوىً وعملٍ ومكانةٍ اجتماعيةٍ وإحساسٍ بالطمأنينة. إنّ الخروج من التبعية الاقتصادية يتطلب من الأنظمة العربية الاستقلال بالقرار السياسي والاستقلال بهذا الأخير يتطلب نوع من التكتل على كافة المستويات، وتماشي مع النظام الرأسمالي الدولي وفق مصالح شعوبها بدرجة أولى، كل هذا من أجل التحرر من قيود التبعية الاقتصادية المفروض على كاهل المواطن العربي.

فمن الشأن الاقتصادي إلى السياسي الذي يدنو هو الآخر تحت أحذية التبعية للدول والتكتلات القوية في العالم، وتحت ظلال هذه الأنظمة العربية السياسية المرهونة بنوع من التبعية الساذجة -إن صح التعبير- وهي ما تفرض الدولة القوية على الدولة الضعيفة من أسلوب سياسي يصب في صالح الدولة المتبوعة، وبه تكون تبعية الدولة الضعيفة قهرية واضطرارية. أي أن الدولة الضعيفة لديها رؤى وقناعات سياسية لكنها مجبرة على التخلي عنها بسبب هيمنة الدولة المتبوعة، وبهذا عاش المواطن العربي زاحفاً لاهثاً وراء تحصيل لقمة عيشه وحبة الدواء لمريضه وقسط من التعليم لأبنائه الذين قُدر لهم أن يتعلموا.

وأما أولئك الذين لم يكتب لهم أن يتعلموا وهم كُثر فظلوا رهينة الجهل والأمية والفقر المدقع تحت أنظمة لا تملك قرار سياسياً سيادياً لوحدها، بل تخضع رغم أنفها للوصاية الغربية حتى في أبسط شؤونها الداخلية. أما على الصعيد الاجتماعي والثقافي وكذلك الديني والتربوي، فلقد شجّعت الأنظمة العربية في مُجملها خطاب العودة للأصول أي ثقافة ترسيخ العادات والتقاليد، هذا ما وجدنا عليه آباءنا وإشاعة المعرفة اليقينيّة التي تقوم على الجواب الواحد الصحيح والعلاقات الميكانيكية السببية. أي اختصار الواقع في تبسيطات اختزالية مثنويّة.. أسود أبيض.. خير شر.. نور ظلام.. مؤمن كافر..

والتي غالباً ما تستمد قوتها من إسباغ اليقين الديني والتمسّك بأصالتها الماضوية وبالثوابت، وبذلك تم سدّ السبل أمام الفكر الحر وإبداعه الذي يعتمد على النقض والنقد وقابلية التجاوز والشك والجدل والتعدديّة والاحتماليّة. ويكفينا النظر إلى واقع الإعلام في الدول العربية لندرك كيف سيطرت الأنظمة العربية عليه ووجهته بما يعزّز النظرة الدينيّة التراثيّة، ويخدم مصالح النخب الحاكمة في آن معاً. وكذلك مدى إحكام الرقابة على دور النشر والكتب المستوردة والصحافة، وإخضاع المؤسسات الثقافية لمؤسسات حكومية بيروقراطية لا تفهم معنى الثقافة ولا تدرك أهميتها المجتمعيّة.

وعلى الصعيد التربوي لم يكن الوضع بأفضل مما هو عليه مما سبق، فلقد فشلت المدرسة في رسالتها المرجوّة، وبدلاً من نشر الفكر النيّر والروح النقديّة ساعدت على نشر الفكر التعصّبي والقَدري وتحوّلت المدرسة خاصةً في الأنظمة الشمولية إلى مؤسسة تدجين وتهجين وترويض ولا كلمة تعلو على الجهل واندحار منسوب الوعي النقدي. أما الجانب الديني باعتباره مصباح علاء الدين بيد العصابات العربية الحاكمة، فمن أجل شرعنة وجودها اعتمدت على الاستخدام النفعي للأديان بشكل عام وللدين الإسلامي بشكل خاص، وسنلاحظ أنه وفي حالات كثيرة تمّ توظيف الدين في الدول العربية لتحقيق أغراض نفعيّة، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية.

هكذا تحوّل الدين إلى مظاهر خارجية وأداة من أدوات الحكم والسلطة، وتم اختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيويّة متدنيّة على حدّ تعبير نصر حامد أبو زيد في كتابه التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التفكير الصادر في عام 2010. لقد كان وما زال تحالف السلطة السياسية والسلطة الدينية من أقوى آليات التحكّم والترويض للإنسان العربيّ، ففي الوقت الذي كانت تقوم مؤسسات النظام الحاكم العربي بحرمان الناس من أبسط حقوقهم السياسيّة والاقتصاديّة وحق المشاركة في اتخاذ القرارات المصيريّة، كانت مؤسساته الدينيّة تقوم بحرمان الناس من أبسط حرياتهم الاجتماعيّة والإنسانيّة والفكريّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.