شعار قسم مدونات

"أبو ناجي" ينتصر لواشنطن بمعركة تكسير العظام في العراق

blogs العراق

دخلت مرحلة الصراع السياسي في العراق أخطر مراحلها، فالأعمى والبصير وحتى الصم والبكم يرون ويسمعون ويعرفون أن أحزاب العملية السياسية مرتبطة بجهات دولية تعمل على إسنادها وتمويلها وتساعدها للحصول على المكاسب في العراق، ومع الانقسام الدولي بشأن ملف المنطقة بما فيها العراق إلى فريقين: الأول إلى جانب إيران وروسيا وحلفائهما والثاني يتمثل بالولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما، صار لزاماً على الأحزاب العراقية بيان موقفها والاصطفاف مع الجهة التي تكن لها الولاء، ما تسبب بتشظي التحالفات التي بنيت على أساس طائفي وقومي طيلة السنوات السابقة فما عاد هناك تحالف شيعي خالص ولا تحالف سني خالص وحتى البيت الكردي المتماسك تشظى واضطر الكرد للانقسام والتحالف مع فريقين مختلفين.

 

والأمر ذاته شهده التركمان، أي أن إعدادات العملية السياسية في العراق تم تغييرها بعد أن خُيِّل للجميع أن طهران سيطرت بشكل كامل على العراق ولم يعد لخصومها وجود على الأرض، وهذا ما أكده رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي الذي قال في لقاء تلفزيوني هذا الأسبوع إن "إيران لديها أدوات فاعلة على الأرض على عكس الولايات المتحدة التي هي غير فاعلة في العراق ولا يستطيع أكبر مسؤول أمريكي منحه فيزا لدخول أمريكا في حين مسؤول إيراني صغير يمكن أن يسهل كل الإجراءات بسرعة" العبادي قال هذا الكلام وعلى وجهه تعابير الخذلان الأمريكي له، فهو من خسر الولاية الثانية بسبب دعمه للعقوبات الأمريكية على إيران، الموقف الذي حصل على توبيخ إيراني مباشر بسببه ولم تحرك الإدارة الأمريكية ساكنا لحفظ ماء وجهه أو حتى مناصرة من ضحى لكسب الدعم والتأييد.

 

وربما الإطاحة بالعبادي حامل الجنسية البريطانية والإتيان بقيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الجهة السياسية في العراق الأكثر ولاءً لإيران بسبب الارتباط العقائدي والفكري، إضافة إلى الدعم والتأسيس في إيران، وهذا سبب وجيه لرئيس الحكومة الجديد أن يعلن في ثلاثة مؤتمرات أسبوعية متتالية أن العراق ليس ضمن منظومة العقوبات الأمريكية على إيران وأنه يرفض الإملاءات الخارجية، في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة إجباره على إيقاف استيراد الطاقة الكهربائية والغاز والمحروقات من إيران بعد أن منحته ٤٥ يوما كمهلة لإيجاد البديل اتبعت ذلك بفرض كبرى شركات إنتاج الطاقة الكهربائية للاستثمار في العراق إضافة إلى إيفاد وزير الطاقة وبصحبته ٥٠ من كبار المستثمرين معظمهم في مجال الطاقة والنفط لغلق الباب أمام إيران والسيطرة على السوق العراقية.

 

السعي الإيراني للهيمنة الكاملة بمختلف المجالات "السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية" على العراق ودولٍ في المنطقة صار يهدد مصالح البلدين الحليفين

وربما هذا الملف الوحيد الذي قد تنتصر فيه واشنطن على طهران في العراق حيث لا تجيد في السنوات الأخيرة سوى عقد الصفقات والانشغال بالحصول على أكبر كم من الأموال التي تطبعها هي بنفسها من دول يحتضر فيها نفوذها شيئا فشيئا، وهذا ما أدركته حليفتها بريطانيا التي تحفظ بشكل جيد طبيعة المجتمع العراقي وانقساماته، كما ولها أدواتها على الأرض على الرغم من انسحابها العسكري منذ سنوات طوال.

 

يعرف العراقيون البريطانيين جيدا منذ الاحتلال مطلع القرن الماضي وبقيت جذور الإنكليز ممتدة في بلاد السواد من خلال المشاريع المرتبطة بشكل مباشر بجهازهم الاستخباري، ويطلق العراقيون على البريطانيين لقب "أبو ناجي" كما يدرك أبناء الرافدين لاسيما المتخصصين منهم في الشأن السياسي حجم النفوذ البريطاني في العراق وطبيعة ما يقوم به ذلك النفوذ من تأثير بين الحين والآخر، وهذا ما يميز المملكة العجوز عن الولايات المتجمعة حديثا فالمشاريع بالنسبة للندن لا تموت مع الوقت وتبقى تغذيها لتحريك الخيوط في المنطقة بينهما تعمل واشنطن بصورة فوضوية وعشوائية جعلتها متخبطة في معظم الملفات التي أقحمت نفسها فيها والحلف بين النقيضين يشبه حمل شاب قوي البنية عجوزاً حكيماً، فيساعد أحدهما الآخر بما لديه من إمكانات.

 

السعي الإيراني للهيمنة الكاملة بمختلف المجالات "السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية" على العراق ودولٍ في المنطقة صار يهدد مصالح البلدين الحليفين لا سيما بعد أن تفرغت بريطانيا من مشكلاتها مع الاتحاد الأوروبي وعادت لترتيب مصالحها الخارجية، فكانت ثمرة هذا الحلف أن تداركت الإدارة الأمريكية نفسها في العراق بالرمق الأخير، حيث اضطرت مؤخرا إلى غلق قنصليتها في البصرة تحت تهديد صواريخ جهات مدعومة إيرانيا كما اضطرت إلى استثناء العراق من العقوبات على إيران بشكل جزئي لمعرفتها بصعوبة التطبيق الكلي في الوقت الراهن وإن كان حتى في الجزئي صعوبة في التطبيق، فضلاً عن محاولة استعانتها بحلف شمال الأطلسي لإعادة تأهيل القوات العراقية، لكن تأخير نشر قوات الناتو بقواعد عسكرية في العراق فُسِّرَ على أنه تخوُّف من تعرضها لهجمات من قبل قوات تدين بالولاء لإيران وتمتلك آلاف المقاتلين على الأرض إضافة إلى المعدات العسكرية الثقيلة.

 

إطباق الخناق الإيراني هذا على المصالح الأمريكية في العراق لا يفكه سوى الحليف "أبو ناجي" حيث يطلق العراقيون هذا الاسم على الإنكليز بسبب ما كان ينقله عنهم التاجر البغدادي اليهودي أبو ناجي والذي كانت "مَس بيل" تزوره في منزله المطل على دجلة ويحوي حديقة جميلة، حيث يلتقي مع أصدقائه وتنقل لهم بيل الأخبار وما ينوي الحاكم البريطاني فعله، فيبث أبو ناجي تلك الأخبار إلى الشارع البغدادي وهي أخبار دقيقة لدقة مصدرها، حيث تعمل البريطانية سكرتيرة الحاكم الإنكليزي للعراق ومن أكثر الشخصيات تأثيراً في الملف العراقي بتلك الفترة.

 

نتائج تدخلِ أبو ناجي "بريطانيا" بدأت تظهر على الساحة، حيث كان للسفير البريطاني الذي يجيد تحدث اللغة العربية بطلاقة عملا كبيرا بجولة لقاءات في مدن عدة من العراق ليعيد ترتيب أوراق بلاده التي تملك خيوطاً مهمة في الرأي العام من خلال دعمها لعدد من المراكز والمواقع والمؤسسات المؤثرة في الرأي العام، لكن ذلك ليس كافياً فالسرعة لاحتواء المد الهيمنة الإيرانية تتطلب كسب جهات جاهزة بجماهيرها وتمثيلها الحكومي والنيابي فكان الاتجاه صوب الصدر والحكيم اللذين ركنتهما إيران جانباً، واعتمدت على منافسيهما للتربع على عرش السلطة والمال والقوة، إسناد الصدر والحكيم وإعطاؤهما الضوء الأخضر أوقف إكمال الكابينة الوزارية لحكومة عادل عبد المهدي كما خططت لها إيران.

 

وقسمَ الصفَّ السياسي الشيعي المتربع على عرش السلطة منذ سنوات، لتحتدم الخلافات والصراعات حتى وصلت إلى التصفيات الجسدية بين الجانبين ثم وصل لهيب نارهم إلى المحافظات التي بنيت على أساس التوافقات بين الأحزاب والكتل الشيعية ليسحب تحالف الصدر والحكيم بساط محافظ بغداد من تحت حزب الدعوة الابن المدلل لطهران والمتربع على عرش السلطة في العراق منذ ٢٠٠٦ وحتى ٢٠١٨ ومن بغداد إلى البصرة سيناريو مشابه.

 

 قاسم سليماني ومجتبى خامنئي وحسن دانائي فر وغيرهم من القيادات الفاعلة بالملف العراقي سيضطرون لإشعال المواجهة المسلحة بغية تأخير خسارتهم في العراق مالم يحدث خلاف بين أبو ناجي والعلوج
 قاسم سليماني ومجتبى خامنئي وحسن دانائي فر وغيرهم من القيادات الفاعلة بالملف العراقي سيضطرون لإشعال المواجهة المسلحة بغية تأخير خسارتهم في العراق مالم يحدث خلاف بين أبو ناجي والعلوج
 

في حين تتجه الأنظار إلى جلسة الثلاثاء المقبل التي يسعى فيها الحلف المقرب من إيران لتمرير الأسماء التي رشحها للوزارات الأمنية وتحديدا رئيس هيئة الحشد الشعبي السابق ومستشار الأمن الوطن فالح الفياض الذي لم يرشح تحالف الفتح وزيرا بديلا عنه حتى الآن على الرغم من الفيتو عليه من كتلة أخرى وفِي مقدمتها كتلة الصدر التي قال نائب عنها إن الاعتراض ليس على اسم الفياض فحسب وإنما على التوازن في الوزارات والاستحقاقات في إشارة واضحة إلى أن عيون الصدر على وزارة الداخلية التي من يسيطر عليها يسيطر على أمن العراق كله وأكثر وزارة عانى منها الصدريون، حيث استخدمت كثيرا ضدهم ولضربهم وفِي ظل الدعم الدولي الكبير الذي يتلقاه الصدر في هذه الفترة وإصرار الجانب الآخر على وزير لا يحظى بمقبولية هي أفضل فرصة للحصول على الوزارة.

 

أما أبو ناجي فكسب كثيراً من هذه الأحداث، حيث أعاد ترتيب أوراقه في ظل وجود أرضية مناسبة لعمله ووجود حليف أمريكي قوي لكنه ليس لديه آلية للتعامل مع المجتمع والملف العراقي بشكل عام، ولعل نجاح رئيسة الوزراء تيريزا ماي بخروجها من تحت مُوس العمال سيصب في صالح هذا المشروع التوسعي لا سيما أنها أنشأت قاعدة عسكرية كبيرة في الخليج لدعم مشاريعها في المنطقة والتي غالبا ما تتناغم مع مشاريع حليفها الأمريكي.

 

وفِي ظل هذا الصراع واشتعال حرب تكسير العظام بين رؤوس تحكم العراق منذ احتلاله يبدو أن سيناريو الصدام المسلح في مناطق وسط وجنوب العراق وارد قبل أي تدخل خارجي لضبط الموقف والسيطرة على الأرض، فالعراق اليوم خط الدفاع الأول بالنسبة للنظام الإيراني والتحشيد فيه مستمر منذ سنوات استعدادا لأي محاولات تدخل خارجي من الأراضي العراقية وبالرغم من إعلان الحكومة عدم السماح بأن تكون أرض العراق مسرحا للهجوم على أي دولة فإن من سيكسب المعركة على الأرض سيكون صاحب القرار في ذلك وأي تصريح أو موقف حكومي عراقي لن يخرج عن دائرة المتنفذ الذي له الكلمة الفصل بهذا الشأن.

 

وفِي ظل المعطيات يبدو أن قاسم سليماني ومجتبى خامنئي وحسن دانائي فر وغيرهم من القيادات الفاعلة بالملف العراقي سيضطرون لإشعال المواجهة المسلحة بغية تأخير خسارتهم في العراق مالم يحدث خلاف بين أبو ناجي والعلوج وتعود الدماء لحلفاء إيران من جديد في بلاد الرشيد وهذا أمر أستبعد حصوله في ظل اكتشاف أكبر احتياطي للنفط في العراق مؤخرا، ما يعني أن التدخل البريطاني أنقذ أمريكا من ضياع ثروة كبيرة كانت ستذهب لحساب الحلم الإيراني بالتمدد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.