شعار قسم مدونات

الشرق الأوسط وعقدة الستينات.. وحاجتنا اليوم إلى الفلاسفة

لوي ألتوسير

ثمانية أعوامٍ مرّت على حِراك البوعزيزي وها هو العام التاسع يطلّ برأسه ليُخبرنا أنّ ما من جديد قد يتغيّر في هذا الشرق وأنّه ما يزال يعيش عقّدة الستينات والسبعيات ولم يخرج بعد من تلك العشريات التي شهدت وجود أبرز الفلاسفة والمُنظرين، وفي الوقت ذاته؛ فإنّ ما كشفته السنون الثمانية الماضية يوحي بأنّ العالم اليوم يعيش أزمات من نوعٍ مختلف؛ غير تلك الأزمات التي يعشيها شرقنا، وأحلامٌ غير تلك التي نحلم بها في هذا الشرق.

مراجعة سريعة لكتاب "الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية" للماركسي الفرنسي "لوي ألتوسير" يتضح لنا أنّ دول هذا الشرق بِرُمّتها تُطبق حرفيًا ما كتبه التوسير قبل حوال نصف قرن، وكيف تستغل دول الشرق الأوسط (إلّا ما رحم ربي) كافة الأجهزة لخدمة مصالح الفئة الحاكمة، وهنا اصطلاحًا يُسميها ألتوسير "إعادة إنتاج ظروف الإنتاج"، فبعيدًا عن الأجهزة القمعية التي تتحكم بها الدول بشكل مباشر كالجيش والشرطة والقضاء، هناك أجهزة أخرى "كالنقابات والأحزاب والمدارس والكنائس وأجهزة الإعلام ودور الثقافة وحتى الأسرة" تُمارس جميعها الدور القمعي ذاته لكنه بلباس أكثر تحضر ومدنيّة.

 

فـ "المدرسة" التي يُركز عليها ألتوسر في كتابه تأخذ الأطفال في سنيّهم الأولى تُدجّنهم وتُأدلجهم حتى يصلون السابعة عشرة ليكونوا وقتها "مواطنين صالحين" من وجهة نظر الفئة الحاكمة، ويذهب ألتوسير إلى أبعد من ذلك مؤكدًا على أنّ المدارس والأسر على حدٍ سواء تعيش أزمة وجودية عميقة حيث تمثلان "جهاز الدولة الأيديولوجي المهيمن" ويلعبان دورًا أساسيًا في إعادة إنتاج ظروف بقاء أنظمة الحكم والوقوف بوجه أيِّ تغيير قد يطرأ عليها.

الطريق المسدود الذي يسير فيه الشرق الأوسط منذ الثورة العربية أي قبل مائة عام؛ أكثر ما يحتاجه اليوم هو أشخاصٌ يُفكرون خارج الصندوق، يحتاج لفلاسفة يعرفون مكامن الضعف والقوّة في هذا المجتمع

أما أجهزة الإعلام والاتصال من تلفزيون وراديو وصحف وسينما وكتب تؤدي هي الأخرى دورها المرسوم من خلال "تجريع" المواطنين جرعات يوميّة ممتلئة بالقومية حينًا والشوفينية أحيانًا وحتى الديموقراطية! لتشكل مع بقيّة الأجهزة الأخرى التي أوردها ألتوسير كلًّا واحدًا هدفه الأساسي "إعادة إنتاج نظام الإنتاج" وبعبارةٍ أخرى إعادة إنتاج ذات الظروف التي تسمح ببقاء الحُكّام أطول فترةٍ ممكنة، مستعينين بتلك الأجهزة الأيديولوجية.

هذا تلخيص سريع ومكثّف لكتاب ألتوسير، وما إذا أسقطنا مكنونات هذا الكتاب على واقعنا المعاصر، نجد أنّه –أي الكتاب- وعلى الرغم من أنّه كُتب في العام 1970، وفي فرنسا، غير أنّه يتحدث عن واقعنا الشرقي والعربي المُعاش بكل تفاصيله، وبمقارنة بسيطة مع الحراك الفرنسي الذي نشهده هذه الأيام؛ يتبيّن لنا أنّ الحامي الأكبر للفرنسيين هو الأحزاب والنقابات، وأنّ أجهزة الإعلام باتت صوتهم وليست صوت الفئات الحاكمة، في حين أننا رأينا وخلال السنوات الثمانية الماضية كيف تحوّلت كافة الأجهزة الأيديولوجية خاصةً كانت أو عامة إلى أجهزة قمعٍ لا تقل في ضراوتها عن أجهزة القمع المتخصصة، فالقمع وكما هو معروف لا يتوقف على القمع الجسدي، بل يتخطاه إلى القمع النفسي والثقافي والاجتماعي والإعلامي وحتى الديني.

يقول ألتوسير بأنّ زمن الكنيسة قد انتهى؛ وأخذت المدرسة على عاتقها القيام بدور الكنيسة لكن بشكلٍ أكثر تحضرًا، رُبما يصحُّ هذا الكلام لو أسقطناه على الفرنسيين أو الأوروبيين بشكلٍ عام، غير أنّ الواقع الذي يعيشه الشرق الأوسط يشي بأنّ سلطة رجال الدين ما تزال قويّة، جنبً إلى جنب مع المدرسة، وبنظرة إلى مساجد وكنائس الشرق الأوسط نرى كيف تقوم هذه الأجهزة بتخريج نسخ مُتطابقة ومُتوافقة ومتماهية مع الأنظمة الحاكمة، ولعلّ الحركات السلفية تُمثل النموذج الأبرز لدور المساجد المُتماهي مع أنظمة الحكم.

أكثر من ذلك؛ الطريق المسدود الذي يسير فيه الشرق الأوسط منذ الثورة العربية أي قبل مائة عام؛ أكثر ما يحتاجه اليوم هو أشخاصٌ يُفكرون خارج الصندوق، يحتاج لفلاسفة يعرفون مكامن الضعف والقوّة في هذا المجتمع، فلا نستطيع اعتماد النماذج الغربية لمجتمعنا، فنحن نعيش ظروفًا ومرحلةً تاريخية لا تتفق وما يُفكرون، كما أنّ النماذج التي صُممت للغرب لا تنفع لهذا الشرق؛ فمنذ مشروع "دانييل ليرنر" التحديثي وما تبعه من مشاريع وحتى اليوم أثبتت جميعها فشلها في مجتمعنا، والسبب هو ما ذكرناه أنّها لم تلحظ خصوصية المجتمعات الشرقية التي لا يُعرف كيف جُبلت إلّا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.