شعار قسم مدونات

دكتوراه ببضع صفحات!.. كيف تساهم الدراسات العليا بنهضتنا؟

blogs دراسات عليا

من المجالات المعوّل عليها في الاجتهاد المعاصر والنهوض بأماتنا بحوثُ الدراسات العليا، التي ينال بها الباحثون الألقاب العلمية (الماجستير والدكتوراه) ثم يترقّون بعدها عبر البحوث المحكّمة إلى درجة (الأستاذية)، لكن بعض الجامدين حتى ممن يحملون الألقاب العلمية، ويشرفون على الباحثين ويشاركون في مناقشة البحوث -مع الأسف- يُخرجون هذه البحوث بطريقة مناقشتهم وملاحظاتهم عن مقصودها وهدفها ولبّها وفائدتها الحقيقية، فيمنعون الباحث من الترجيح ناهيك عن الاجتهاد والإتيان بجديد! حتى إن أحد (الدكاترة) كان يقول: (الترجيح بين أقوال الفقهاء قلة أدب!) فبمعيار هذا الدكتور كلُّ فقهائنا -حاشاهم- من قليلي الأدب، فكتبهم طافحةٌ بترجيح مذاهبهم، ومناقشةِ بل الردِّ على المخالف من بقية المذاهب، أو ضمن المذهب الواحد.

وبهذا المنهج الجامد يفقد البحثُ العلمي فائدته وهدفه، فالأصل في البحث العلمي أن يعالج مشكلة علمية، ويسدّ ثغراً مفتوحاً يحتاج لاجتهاد واختراعٍ وحلّ. وقد انتشرت –بفضل الله تعالى- الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) بين طلاب العلم في ديار المسلمين، وهي ظاهرة تستحقّ الإشادة والفرح والحبور، رغم كونها خالية في كثير من الأحيان من أهم مقاصدها وهو:

أولاً: تعلّم مناهج البحث العلمي، في التخصّص الذي اختاره الباحث.
ثانياً: تقديم نتائج وتوصيات نظرية وعملية تسدّ النقص العلمي، وتحلّ الإشكال المعرفي، وتطوّر الواقع الفعليّ، الذي لأجله قام الباحث ببحثه، وينعكس ذلك على الحياة العلمية والعملية، فتتطوّر الأنظمة والأفكار والمنتجات.

وهنا نتساءل: لماذا لا نركّز في بحوثنا العلمية الأكاديمية على محلّ الإبداع وحلّ الإشكال، بدلاً من المباحث الطويلة التي تمهّد وتلخّص كثيراً مما ليس ضرورياً للبحث، فكثير من البحوث الاكاديمية ليس فيها إلا الجمعُ، وإعادةُ الصياغة، وفي أحيان قليلة إعادةُ الترتيب. حتى تصبح بحوثنا دائماً (مركّزة) بدلاً من رُكام الأوراق التي تخلو من العطاء الجديد؟! فكثير من الكتب الإبداعية التي أحدثتْ ضجةً ونقلة نوعية في الوسط العلمي العالميّ عبارةٌ عن مقالة أو كُتيّب صغير! لكننا قومٌ مفتونين (بالكمية على حساب النوعية) كما يقول أستاذنا د. عبد الكريم بكار، فالتفاخر بعدد الصفحات لا بنوعية الكتابة والجديد فيها! ولطالما سمعنا أنّ الجامعات العالمية المرموقة تعطي درجة الدكتوراه على بحث صغير الحجم، (عدة ورقات) وأصارحكم أنني كنتُ لا أعرف سببَ ذلك وأستغربُه، (كيف يعطون شهادة أكاديمية عالية لبحث صغير الحجم؟!).

يجب على كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، أن يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير وإرسالها للمراكز البحثية لإيجاد حلول لها

وما زلتُ أذكر أستاذي الذي أشرف عليّ في مرحلة الماجستير، عندما أمسك خطة بحث الماجستير: (الخطة: عبارة عن فهرس مبدئيٍ للبحث الذي ينوي الباحث كتابته)، وكانت وقتها حوالي سبع صفحات، حيث نظر فيها ثم أشار إلى جزء صغير فيها (عدة أسطر) وقال: "هنا عملك!" يقصد: هنا العمل الحقيقي، والباقي تكرار لمن سبقك. تأمّلت الخطة فوجدتُ كلامه صحيح ودقيق، ففي ذلك الجزء الصغير الذي أشار إليه من الخطة، كانت النوازل المعاصرة التي تحتاج إلى اجتهاد جديد. وهنا يأتي سؤال: كيف سنتأكّد أن الطالب تملّك المنهج العلميّ، إذا لم يكتب بحثاً طويلاً؟

الجواب: بما أنّ الباحثَ وصل لنتائج صحيحة، وناقشتْه اللجنةُ العلمية (المتخصّصة) واطمأنوا أنه استخدم منهجاً علمياً سليماً، ووصل به للنتائج التي انتهى إليها، فقد حقّق المقصود، وأضحى باحثاً مؤهّلاً لتطبيق ذلك المنهج العلميّ في بحوث جديدة، واستخراج النتائج التي تثري الحقل المعرفي. فلا نحتاج لتكرار المعلومات التي سبقتْ دراستُها، وليس لنا فيها رأيٌ جديد، وذلك لعدة أسباب أهمها:

1- في ذلك هدر للموارد: كإضاعة وقت وجهد الباحث والقارئ، بغير فائدة تناسب ذلك الوقتَ والجهد المبذول، والورقَ والحبر والجهد الذي ينتج عن تكبير (ونَفْخِ) المؤلّفات، حتى إنّ الرفوف تأنّ، والأماكن تضيق، بالمجلدات الكثيرة، وأغلبها نسخٌ وتكرار! وقديماً قالوا: لكنْ مِنَ التطويلِ كلّتْ الهممْ.. فصار فيه الاختصار ملتَزَمْ. فكيف في عصر السرعة وتويتر؟!

2- تُلزم القارئَ للبحث أن يقرأ شيئاً مكرّراً معروفاً ومذكوراً ببقية الكتب، إذا لم يتنبّه القارئ ويتجاوز ذلك المكرّر، وبخاصة إذا كان ممن يُؤثر قراءة الكتاب كاملاً!، بل ربما أصابه الملل أو الانشغال فيترك البحث قبل أن يصل إلى (الزبدة) أي: المقصود وهو الاجتهادات الخاصة بالمؤلّف، فتضيع جواهره وآراؤه الخاصة بين ركام المعلومات المكرّرة. بينما لو اقتصر الكاتب على الزبدة فقط، وأتى بحججها وأدلتها وناقشها جيداً، لقرأها -لا محالة- كل من يطّلع على البحث. حتى المتخصّص يعجز عن الاطلاع والإحاطة بالمؤلّفات في تخصّصه، ولا يقف بسهولة على الفروق بين وجهات نظر المؤلِّفين، فـ"كثرة المصنفات تعيق عن التحصيل" كما ذكر العبقري ابن خلدون رحمه الله في مقدمته.

3- عندما يصل الباحث لهذا الجزء (الذي يحتاج اجتهاداً جديداً) يمكن أن يكون قد أصابعه الإعياء والملل، فلا يعطي هذا الجزء حقّه، وهو المقصود من بحثه أصلاً! وقد سمعت أستاذنا د.أحمد الريسوني يقول: مشكلة (مبحث المقاصد) أنه يأتي في نهايات الكتب -غالباً- فيصل له المؤلف وقد تعب، فلا يعطيها حقّها من البحث والتمحيص والتوسّع والإنضاج، وهذا من أسباب تأخّر نضوجِ هذا العلم الجليل أي (المقاصد). فالتركيز على المشكلة البحثية وحلّها، يساهم في تفرّغ الباحث أو المؤلّف لحلّ مشكلة علمية أخرى، ولا ينشغل ولا يستفرغ جهده ووقته وطاقته بتكرار صياغة المعلومات القديمة المعروفة!

4- حتى نعتاد التركيز على الإبداع والتجديد، ونتخلّص من تكرار المعلومات في المؤلفات كالآلة الناسخة! وتخفيفاً من ظاهرة: (الاهتمام والافتتان بالكمية على حساب الكيفية والنوعية الجيدة)، فلطالما سمعنا من يقول مفتخراً: "ألّفتُ كتاباً بلغ كذا وكذا من الصفحات"، ولا يذكر قيمتها العلمية! مع أنّ السنن الكونية تقضي بأنّ (الكمية الكبيرة غالباً ما تكون على حساب النوعية الممتازة)، فالجمع بين الكمية الكبيرة، والجودة العالية نَدَر أن يجتمعا وبخاصّة في مجال التأليف العلميّ.

بعد الانتهاء من البحث ومناقشة اللجنة العلمية للباحث ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحث في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب
بعد الانتهاء من البحث ومناقشة اللجنة العلمية للباحث ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحث في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب
 

وأهم ملاحظة في هذا السياق: ألا ينشغل الباحثون بالبحوث والدراسات التي لا يحتاجها واقعنا، ولا فائدة علمية ولا عملية منها، ولا نحتاجها في دنيانا ولا تنفعنا في آخرتنا! بل يركّز على المسائل والقضايا التي تحتاجها بلادنا، لذلك علينا أن نوفّر عناوين للبحوث التي نحتاجها في كل مرافق حياتنا وتخصّصاتنا، بدلاً من تشتّت الطلاب وحيرتهم في اختيار مواضيع لدراساتهم وبحوثهم، فنترك لهم هذه المهمة الشاقّة، ولا نستثمر جهودهم بما ينفع بلداننا.

الذي نقترحه: أنّ كلّ قطاع من وزارات الدولة ومؤسساتها، ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، يكتب ما يحتاجه من موضوعات تحلّ مشاكله وتساعده على التطوير، ويرسل بهذه العناوين أو المشكلات إلى مؤسسة متخصّصة بجمع هذه المسائل، ولتكن -مثلاً- وزارة التعليم العالي، فيرجع لها طلبة الدراسات العليا لأخذ العناوين المطلوبة، فنحقّق خدمة متبادلة: للطالب الذي يبحث عن موضوعٍ لبحثه، وللمؤسسة أو الجهة التي تبحث عن بحوث.

كما يمكن أن ترعى (الجهةُ التي تحتاج البحث) الطالبَ مادياً لينجز لها بحثاً وحلولاً لمشاكلها، التي قد تكلّفه ثلاث أو أربع سنوات من العمل البحثيّ الشاق. وقبل هذا علينا أن ننشر هذه الثقافة في مجتمعاتنا، فإلى الآن أكثر الناس لا يعرف عن الدراسات العليا شيئاً، ولا عن البحوث النظريّة والعمليّة والمَسْحِيّة والإحصائيّة والتجريبيّة، فيظنون الدراسات العليا كتباً تُحفظ كالدراسة المدرسية، لذلك لا ارتباط بين الجهات التي تحتاج الأبحاث من جهة، وبين طلاب الدراسات العليا من جهة مقابلة!

ولطالما كنّا نتباكى على عدم وجود مراكز بحث في ديارنا، وننشر –متحسّرين- الإحصاءات عن المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول الراقية على البحث العلمي، ونسينا الجهود المضنية التي يبذلها طلاب الدراسات العليا في بلداننا، مع ما يبذلونه من وقت وجهد ومال حتى يُنجزوا أبحاثهم، وهي موارد للأمة مضيّعة، أو غير مستثمَرة -بشكل لائق- على أقل تقدير، وبعد الانتهاء من البحث ومناقشة اللجنة العلمية للباحث ونيله الدرجة العلمية (ماجستير أو دكتوراه) لا يجد الباحث داراً للطباعة تنشر بحثَه، فيُرمى البحث في المخازن أو يبقى حبيس الأدراج، أو في ملفٍ إلكتروني في حاسوب. علينا أن نعيدَ النظر بتفعيل الدراسيات العليا في بلادنا، حتى نساهم بنهضتها وقوتها وسعادتها، فالدراسات الأكاديمية ذات النوعية الراقية، من أهم ما يمكن أن يساهم في استئناف أمتنا لشهودها الحضاري، ومن الله التوفيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.