شعار قسم مدونات

توفيق الحكيم.. حول الكتابة ونقد الكتابة

blogs توفيق الحكيم

لعب بالألفاظ، ودراما لا تنتهي، ومراجعة خفيفة لقواعد النحو.. مع التركيز على كلمة خفيفة، تتحول إلى كاتب! بالتأكيد ستجد من الغمر من يصفق لك دائماً، بل يبهجك بمديح زائف وعبارات رنانة "مستقبل باهر، اسم له صدى في عالم الكتابة والرواية وووو". وهذا شيء طبيعي، حتى فرعون كان يُصفق له القوم. ولكن لنتوقف قليلاً ونحاول فهم ما معنى أن تكتب نص وأن تكتب كتاب.. هي ليست مجرد حروف تنظمها، ولا قصة ممتعة.. بل حروف تعتبر مرجعية وعي لأولادك حين تسوء الظروف، عصارة تجربة اجتماعية، أرشيف للأحداث، مصدر حقيقة.

لذلك إن كنت تبحث عن المتعة  أو الشهرة، ابحث عن مجال غير الكتابة، لا تخلطوا الأمور وتحولوها لمتعة، فيشق على أبنائنا البحث عن مصدر الحقيقة ويطغى الزيف على الحقيقة.. صحيح أن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض، لكن عمرك أيضاً يذهب جفاء، وإن تبحث عن نفسك في فلك ليس فلكك ومدار ليس مدارك. ولكن.. هل الكتابة خطيرة حقاً؟! هل هي مجدية أصلاً؟ أم أن الكتّاب يزعمون ذلك حباً لها وتصبيراً لأنفسهم على غباوات الواقع؟!

إن مهمة الكاتب في نظري هي تربية الرأي.. ومادام هدفنا تربية الرأي؛ فيجب أن نترك الناس أحرار ينتقدون.. وبغير ذلك يكون مثلنا مثل الذي يكمم أفواه أطفاله..

الكاتب الحكيم "توفيق الحكيم" طرح الأسئلة ذاتها في كتابه "عصا الحكيم" فقال هل يذهب المداد هباء؟!.. ثم يدور حوار بينه وبين العصا، فتسأله العصا قائلة: يُخيل إليّ أن الكتابة هي أضعف وسيلة للتأثير في المجتمع، وذلك أن من لديه في الغالب حُسن الاستعداد لأن يسمع.. نجده في أكثر الأحيان لا يقرأ، ومن يقرأ فهو قلّما يسمع. ولو كان في الكتابة نفع لرأينا المجتمع قد تغير منذ أمد طويل، ولكن كل قارئ يقرأ وكأن الكلام لا يعنيه، وإذا فطن ابتسم، ثم يطوي الورق ويقول: (كلام!)، ثم ينسى كل شيء بعد حين، لماذا ولمن تجهدون أنفسكم إذن يا معشر الكتّاب في إهراق هذا المداد الذي لن تبتلعه أرض ولا نفس؟!

فيرد الحكيم على عصاه ويقول: حقاً هو جهد لا يُرى له أثر، فالماء يروي الشجر وتحصد منه بيدك الثمر، ولكن المداد.. ماذا يُنبت؟! أين هو الثمر الذي نراه بأعيننا قد أينع في الناس بفعل المداد والقلم؟ إنه لعمل مجحف مُيئس، ومع ذلك يكابده صاحبه ويُصر عليه؛ وهو موقن أن شيئاً لن يتغير وأن أنفسنا لن تتحول. على الأقل بالسرعة التي تشعره بلذة النجاح، ولكنه يمضي في الكتابة وينسى النتيجة، إلى أن يعتاد العمل دون أن يسأل عن الأثر، وكأنه ثور الساقية يدور بها مغمض العينين، لا يدري أذهب ماؤها في الهباء أم ذهب في الغيطان! تختم العصا الحوار وتقول: ربما كان هذا هو السبب في قصور القلم في الظاهر وهباء مداده، إن غيطان النفوي تحتاج إلى أجيال.. حتى تصل إلى أغوارها مياه الأفكار، ويُهيئ أديمها للنبت والإثمار.

هذه الكتابة فماذا عن نقد الكتابة؟!
النقد يُخرج الإنسان من مساحة الأنا الضيقة إلى فسحة الإنسانية الرحبة.. في ذلك يقول الحكيم توفيق الحكيم: مهمة الكاتب ليس في حمل القارئ على الثقة به، بل في حمله على التفكير معه.. ما أرخص الأدب لو كان مثل السياسة طريقاً لاكتساب الثقة! لا؛ إن الأدب طريق إلى إيقاظ الرأي.. لا أريد من قارئي أن يطمئن لي ولا أن يريحه كتابي؛ أريد من قارئي أن يطوي كتابي فتبدأ متاعبه.. ليُسد النقص الذي أحدثت. أريد من قارئي أن يكون مكملاً لي؛ لا أن يكون مؤمناً بي.. ينهض ليبحث معي ولا يكتفي بأن يتلقى عني.. إن مهمتي هي تحريك العقول وإيقاظ الفكر. الكاتب مفتاح للذهن.. يعين الناس على اكتشاف الحقائق بأنفسهم لأنفسهم!

إن مهمة الكاتب في نظري هي تربية الرأي.. ومادام هدفنا تربية الرأي؛ فيجب أن نترك الناس أحرار ينتقدون.. وبغير ذلك يكون مثلنا مثل الذي يكمم أفواه أطفاله خشية أن يملئوا البيت صياحاً؛ ويضع الأغلال في أقدامهم وأيديهم خوفاً من أن ينهالوا على التحف تحطيماً.. إنه لخير عندي أن يحطم أطفالي تحفي وأن يؤذوا سمعي.. من أن أشل عضلاتهم وأعطل عقولهم ونموهم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.