شعار قسم مدونات

عامٌ في مستشفى الأمراض النفسية

blogs مستشفى

خريفها مختلف؛ ربما هو ما دفعني للكتابة لا مرور عام على وجودي بين أشجارها، أو أن نسماتها الباردة أفاقت في داخلي ذكرى بداية مشواري. اختلفت رؤيتي، وتهت أياما وليالي، ما الذي يدور في رأسي، هل أنا جادة فيما أفكر؟ لقد تخرجت من كلية الطب مقرة تماما أن الكثير من الطب ينقصنا في هذا البلد، ومن الكثير الأهم كان الطب النفسي. كانت هذه القناعة شرارة اتقدت بالدعاء، فما مر يوم إلا وأنا اسأل الله الهداية. صديقتي، أخي، ثم طبيبة وطبيب كانوا الملهمين حتى جاء يوم القرار.. أمي قالت إنها تريدني طبيبة متخصصة في الأمراض الباطنية وإنها لا ولن تقبل لي هذا التخصص، أبي للمرة الأولى يقول لي "لا" بكل قوة وحدّة، تجنبت الحديث في هذا الموضوع، وواصلت الدعاء والاستشارة.

  

أعلم أن أبواي ينظران إلي بعين الفخر، كنت وما زلت متفوقة في دراستي، يريدون لي الأفضل.. ولكن من قال لهم إن هذا المجال أسوأ؟ أسابيع مرت؛ ساعدني أخي في إقناعهم، ثم لم يستمروا في الاعتراض، ربما أسرّوه في أنفسهم حينئذ، ولكنهم مع امتهاني له وحديثي عنه أصبحوا أكثر تقبلا ورضا، ربما بدأت متطوعة في انتظار القبول، وكان القبول ليس أمرا بعيدا فعدد الأطباء الذين يتقدمون لهذا التخصص قليل أو معدوم في بعض السنوات، بدأت أنا وصديقتي.

  

الطريق "الموحشة" تصبح أقل وحشة عندما نقرر سيرها وأقل كثيرا عندما نعبر سبيلها، ثم تزول وحشتها وتُستبدل بالضوء ينير عتمة الأفق

لا أخفيكم أن ما جذبني نحوه أيضا كان جمال المستشفى، هو المستشفى الوحيد في الضفة الغربية، بناؤه قديم تحول تدريجيا خلال القرن العشرين إلى مستشفى للأمراض العقلية والنفسية. تراه من الخارج مساحة واسعة، محاطة بجدران حجرية عالية، وخلف الجدران أشجار عمرت كثيرا وشهدت من الأحداث الكثير. بوابته كبيرة يعلوها قوس أثري رائع وخلف البوابة مباشرة ترى مبنى كبيرا يحمل بين أحجاره القديمة تفاصيل كثيرة، وفيه من الأقواس ما يدهش بصرك إذا ما نظرت إليه للمرة الأولى، ثم تجذبك مرات كثيرة. مباني المرضى متناثرة في أرجائه الواسعة، وبين هذا المبنى وذاك حقول متصلة من أشجار الحرش والصنوبر والزيتون.

 

بدأت مناوباتي بعد القبول بفترة وجيزة، ولي أن أقول أنّ طبيعة ما ستكون عليه المناوبات هو ما كان يقلقني قبل البداية، إذ كيف ستكون ليالي الشتاء وأنا أنتقل بمفردي بين أرجائه الواسعة الهادئة إلا من أصوات الريح تضرب أغصان الشجر وأصوات بعض الحيوانات.. اكتشفت أن هذه الظروف قد أعطتني فرصة مميزة للتأمل والمناجاة، اكتسبت وصديقتي بلا صعوبة تذكر مهارات السنة الأولى.

 

الاختبار الثاني كان حول قلقي من إمكانية مواصلة التفكير بالحالات المختلفة بعد انتهاء الدوام، أو التأثر بها. لا أكون صادقة إن قلت إني لم أتأثر، إذ كيف لا وأنا أقترب  أكثر من عقول البشر، كيف لا وأنا أرى في كل يوم أعراض الفصام والاكتئاب والقلق والهوس، لن أكون بشرا إذن، ولكن هذا التأثر ليس بالضرورة ما يحمله الكثير في عقولهم من تصورٍ لمن يعمل في حقل الطب النفسي، أنه سيصاب بالمرض أو "الجنون".

  

نعم لقد تأثرت، تأثرت شاكرة لله نعمة سلامة العقل والنفس، تأثرت مقبلة أكثر نحو مرضاي في محاولة فهم معاناتهم وتقديم المساعدة لهم، تأثرت متمعنة أكثر في فهم تصرفات البشر وردود أفعالهم، تأثرت مدركة أن الاحتواء يكون في كثير من الأحيان سيد الحلول وأن الكلمة لها قوتها العجيبة. أصبت في مرات بالحزن وأخرى بالإحباط لشعوري بالعجز، مرة عندما استقبلت مريضا يعاني من أعراض الفصام، هلاوس وضلالات حدثت متعاقبة وأجبرته دون إرادته على اعتزال دراسة الطب بعد أن أنهى 3 سنوات. الآن، يأمل أهله أن يمارس حياته اليومية العادية كأي إنسان آخر، لم يعودوا يكترثون لتخرجه طبيباً!

   

في أحيان أخرى كنت أُكافأ بابتسامة مريض يخرج من المستشفى وقد ذهبت أعراض الضياع والهوس عنه، ابتسامة امتنان كنت أشعر أني اتعرف إلى حقيقة الابتسامة حينها فقط. أكثر الأمور التي أزعجتني خلال هذه السنة كانت مخاوف الناس من الاعتراف بالمرض  وتفضيلهم نسبه إلى السحر والشيطان على أن يسموه مرضا. وأيضا، الأسئلة المتكررة على مسمعي في الحافلة والشارع وبين الناس "شو اللي وداكي ع هالتخصص؟ بتخافيش ع حالك؟". في الحقيقة لا ألوم السائلين وإنما ألوم الثقافة التي تتأصل في داخلنا عن المرض النفسي والتي زرعت عبر الأجيال، مع وجود محاولات ضئيلة لتغييرها.

 

لا أدري أين يسير مستقبل الطب النفسي في بلادنا وإلى أي أفق؟ لكن أملي أن يبدأ الوعي من الجيل الحاضر، أن يكون عدد المتخصصين في الطب النفسي يناسب حجم المعاناة النفسية في بلادنا، وهذا يتطلب تفكيرا منطقيا وعقلانيا عند اختيار التخصص في ظل ازدياد عدد الخريجين من كليات الطب. الطريق "الموحشة" تصبح أقل وحشة عندما نقرر سيرها وأقل كثيرا عندما نعبر سبيلها، ثم تزول وحشتها وتُستبدل بالضوء ينير عتمة الأفق، وربما بداية تلك الطريق فلا تعود موحشة للآخرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.