شعار قسم مدونات

يوماً واحداً كفيل أن يُصالح قلبك على العالم!

blogs بائع المناديل

يوماً واحداً كفيل أن يُصالح قلبك على العالم، يَوماً واحداً تَخلع فيه رِداء الحُزن عن قلبك بقرارٍ صادق دون سابقة تفكير أو حُسبان، يوماً واحداً كفيل بأن تشعر ببراح الكون يحبو بداخلك كالوريدات الوليدة على الأغصان اليابسة، يوماً واحداً قد يَجبُر ضلوعك الكسيرة برقائق ناعمة سكرية تمحو مرارة الألم، لتشعر وكأنك تُبسِط ذراعيك الرحيمين في وَضعٍ ثابت للطيران.

يَوماً واحداً تُسَلِم فيه روحك المُتعبة للدروب والحارات العتيقة بضيقها واتساعها، تسير فيها طفلا حُراً يحمل دُميَتهُ الصغيرة وطائرته الورقية، وهو يَستطلِعُ العالم لأول مرة في حاراتٍ مُستقيمة وأخرى مُتعرجة كمن يرسم بفرشاته وألوانه التي قاربت على الانتهاء لحظات خالصة من الرضا والسعادة، وطريقاً جديداً للحلم والحب والخيال، طريقاً تتلمس فيه طعم البيوت الدافئة ورائحتها المُخبأة خلف الجِدران المهجورة وصرير النوافذ الباكية، والأسوار الحديدية المَكسوُة بِطبقات الصدأ الرقيقة، وكأنها تَودُ أن تُهديك لحناً خالداً للحياة، وتُخبرك سراً لا تعلمه عن نفسك القديمة وخريطةً للعودةِ إليها.

تسير دون قصد شيء مُحدد، فقط أن تسير وأنت مُمسك بحقيبتك رغبةً مِنك في أن تعبئ زواياها بأكُف البُسطاء الكادحين المغزولة في وشاح الصبر، والوجوه المُعفرة بالأمل الغائب، والأفئدة الفارغة لتملأها بثمار الفرح وعناقيد الكرز وحلاوته، تاركاً خلفك كل ما أثقل روحك وأنهكها طيلة عشرون عاماً وأكثر، تترك رئتيك تتشبع بالهواء رغماً عن الغبار وعوادم السيارات الخانِقة، تتورد وجنتيك ببريق الابتسامة وأنت تتحرى الجمال من حولك، الجمال الذي نهرول إلى تفاصيله لننجو ببقايانا بين الحين والآخر.

الجمال المكنون في الأيادي النحيلة وعروقها البارزة وهي تحمل زكائبها على ظهورها المحنية، ومع ذلك لا يزال لديها القدرة على السعي والابتسام، في قلائد الفل والياسمين في الإشارات وعلب المناديل المعقودة على سعي أصحابها، في رائحة الفول الطازج وحبات الفلافل الساخنة، وقراطيس الورق المُتراصة كباقة ورد في مزهرية، في حذاءٍ بال كَتِلكَ التي خلدها "فان جوخ" في إحدى لوحاته أمام بوابة متحف وحيدة ومنسية، ليقذف الله في قلبي شعور مُدهش بالدفء والأمان بمجرد أن التقت عيناي بأعين غائرة مُتعطشة للحب.

 

الجمال المكنون في الأيادي النحيلة وعروقها البارزة وهي تحمل زكائبها على ظهورها المحنية، ومع ذلك لا يزال لديها القدرة على السعي والابتسام

في تِلكَ اللحظة التي استسلمت فيها للسير نحو لافتة جانبية وقعت عيني عليها بمحض الصدفة، لافته رخامية مدون عليها بطلاء أسود عريض "متحف مُصطفى كامل"، لتنشأ ألفة عجيبة بيني وبين مجموعة من الكلاب الصغيرة الذين قاموا بالتودد إلي والسير خلفي حتى وصلت إلى بوابة المتحف، ليتركونني عائدين إلى أمهم التي تُراقبهم من بعيد، لا أعلم إن كانت هذه الكلاب الصغيرة مُغرمة بالزعيم وسيرته الخضراء مثلي، أم يشعرون بطيف روحه الظليلة باقية بين أرجاء المكان، ويُلمون بقدره الكبير من العزيمة والنضال وهَيبة وجمال الخطابة التي حباه الله عز وجل بها، وصدق مشاعره الشغوفة بحب الوطن وهو يقول "إن من يُفرِط في حقوق بلادِه ولو مرةً واحدة يَبقىَ أبدَ الدهر مُزعزع العقيدة سَقيم الوِجدان".

يوماً واحداً كفيل بأن يصالح قلبك على العالم، في غُصنٍ أخضر مائل أمام بيت بسيط ببوابةٍ خضراء اللون وشُرفة واسعة تُرابية اللون وبقايا سياج خشبي، ليخبرك المشهد أنه ملاذٍ هادئ لِمن أراد إراحة قلبه المُنهك من عناء الطريق، في شغف عينين مُعلقتين بسِرب حمام يُعانِق غسق الغروب الأحمر المُترامي في بهو السماء، في بضع لُقيمات صغيرة وشَربة ماء تضعها روحٍ ندية لِقِطة جائعة تمر بخوف وهي تلتصق بجسدها بجانب الرصيف، في صغير يتوسد الدفء في كَتِف صديقه.

 

وفي أختين بضفائر سوداء قصيرة تزدان بشرائط وردية اللون، يضمان كفيهما الصغيرين وهُن يَعبُرن الطريق باتساع رُقعة قُلبيهِما، لتقع عيناك على حَقيبتهِنَ المدرسية بلونها الشاحب لتشعر أنها تُلوِح لقلبك بالدفء والسلام من بعيد، في رائحة الشمس المُخبأة في ثياب الأطفال، وفي كل ضَحِكة صاخبة من قلب طفل مَملوء بالفرح حينما يُحرز هدفاً بين حجرين مُتباعدين على قارِعة الطريق ليطير في حلقات دائرية مُحاكياً أمير القلوب، تِلكَ الفِطرة السليمة المعجونة بآيات الحب والتي لم تتشوه بعد، كفيلة لتحارب بها أشباحك الخاصة ومراياك الحزينة المكسورة كل ليلة وتنتصر.

يَوماً واحداً يضع الله لك قبولاً واسعاً في قلوب العابرين وحكاياتهم الخاصة، لتخبرني إحدى الجميلات الكَادِحات والتي جلست بجانبي في الحافلة التي استقلها أنني أُشبه صديقة عَزيزةً على قلبها، لترنو إلي بعفوية وبساطة بالحديث عن هُمُوماً فاضت بها روحها ونطقت بها ملامحها، لأشعر وكأنني أعرفها منذ زمن، أجلس معها على بُساط الريح بعد أن التقينا من جديد في لحظات مسروقة من الزمن، ليُعانق شِتات قلبي كرمشات وجهها وهالات عينيها الضاحكة، وهِيَ تُخرج وَطأة الأيام من جوفها بخفة ظل وَضَحِكات تقطع سطور الحديث كمن يختِم كل سطرٍ من الألم المُقدس برسم زهرةٍ وردية.

 

ضَحِكات تَنُم عن عِشق تفاصيل ولديها الصغيرين "يوسف" و"آدم"، والشعور بقلة الحيلة حينما يطلبون شيئاً ليس في استطاعتها واستطاعة زوجها الذي يسعى ليلاً ونهاراً، لتختم كلماتها بحلاوة الصبر واليقين وطول الأمل، رسائل ربانية تأتي روحك على لسان قلبٍ راضٍ مُحب، يتحول معها الواقع المُر إلى انتصار للذات وأمل مُحقق آتٍ وقريب في السعي بمشيئة الرب، يَوماً واحداً كفيل بأن تنجو بقلبك الغِض من الهلاك الذي كان مُحققاً بالأمس، وبتفاصيل قصتك من التيه والخوف والنسيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.