شعار قسم مدونات

أين الحرية الدينية بالإسلام من قضية حد الردة؟

blogs فارسين

من الأمور التي تثير جدلا في الفقه السياسي الإسلامي قضية حد الردة فبينما نتكلم عن الحرية الدينية التي منحها الإسلام للمجتمعات وللإنسان يثور تساؤل وإشكال واعتراض ألا وهو أين الحرية الدينية التي نتحدث عنها من قضية حد الردة والتي تقضي بأن من بدل دينه من الإسلام إلى غيره حكمه القتل ولست في هذا المقام بصدد مناقشة الموضوع فقهيا ومن اعتبر أن حد الردة حد ثابت بإجماع المسلمين ولن أناقش الموضوع حديثيا وأن حد الردة هو حد ثبت بحديث آحاد وليس كباقي الحدود التي ثبت بالآيات القرآنية القاطعة أو أن هذا الحد هو من أحكام الإمامة والسياسة الشرعية التي تتبدل وتتغير باختلاف العصور حسب رأي الحاكم. لكن ما أود أن أشير إليه في هذا المقال هو نقاش مسألة خاصة وهي هل يوجد تعارض بين الحرية الدينية التي يتحدث عنها المسلمون وحد الردة. وفي هذا المقام سأتحدث عن عدد من النقاط الأساسية المتفق عليها والثابتة في هذا الموضوع.

أولا: إن الحرية الدينية التي منحها الإسلام للإنسان هو أصل مقطوع به لا يقبل الجدال وقد ثبتت هذه الحرية الدينية بآيات قرآنية قطعية لا مجال للتأويل فيها أو شبهة ادعاء نسخها بغيرها من الآيات فقد قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ويقول تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقال تعالى (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) وقوله تعالى (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) إلى غيرها من الآيات القرآنية التي تدعو إلى التأمل والتفكر وإعمال العقل والأحاديث النبوية التي تؤكد على الحرية الدينية وحرمة إدخال أحد في دين الإسلام بغير إرادته أو بناء على قوة القهر والجبر والسلطان وإنما لكل إنسان الحرية في اعتقاد ما يشاء من الأفكار وأن الأمر قائم على النقاش والحجة والبرهان والجدال بالتي هي أحسن فقال تعالى (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هذا على المستوى النظري.

 

وأما على المستوى التطبيقي فقد تأكدت الحرية الدينية من خلال الفتوحات الإسلامية فعندما فتح المسلمون الكثير من البلاد لم يجبروا أهل تلك البلاد على تغيير معتقداتهم بل وكانت متعبداتهم محمية ومصانة ويدل على هذا أننا نطوف ببلاد الشام والعراق ومصر فنجد الأثار القديمة كالآثار الفرعونية وآثار بابل والآثار التدمرية والتي لاتزال قائمة إلى يومنا هذا دون أن يمسها المسلمون الأوائل وهم الصحابة رضوان الله عليهم بسوء أو حتى يتناقشوا فيها بالرغم من أن بعض هذه الآثار إنما كانت أصناما تعبد من دون الله تعالى كذلك ولم يسجل التاريخ عند النصارى أو اليهود حالات إكراههم للدخول في دين الإسلام بل التاريخ يثبت أن المسلمين وغيرهم ظلوا متعايشين متفاهمين طوال تلك القرون.

يمكن أن نميز بين حد الردة الذي يكون سببا للخروج عن نظام المجتمع وهذا يجب أن يقابل بالقوة والقتال باتفاق العلماء فهو يمثل جريمة الخيانة الكبرى في القوانين البشرية

الأمر الثاني: أن الإسلام دين دولة فالإسلام يختلف عن غيره من الأديان كالدين المسيحي فهو لم يتناول جانبي الأخلاق والعبادات بين الناس فحسب وإنما جاء لتنظيم حياة الناس السياسية والمجتمعية والأخلاقية وهذه النقطة لا تقبل الجدال والخلاف حيث إن أكثر من ثلث القرآن تقريبا تناول مواضيع تتحدث عن السياسة والحكم وعلاقة المسلمين بغيرهم والمعاملات ولا يمكن فهم الإسلام إلا من خلال أنه دين دولة جاء لإرساء نموذج دولة تقوم على الحرية والعدل والمساواة وتمكين الأخلاق الفاضلة في المجتمع وليس دبن عبادة فقط بل العبادات فيها معان سياسية واضحة كالصلاة والصيام والزكاة والحج ومن خلال هذه النقطة نستطيع فهم الفتوحات الإسلامية والتشريعات التي جاء بها الدين الإسلامي.

الأمر الثالث: هو وجوب التمييز بين ما يعتقده الإنسان ويعتنقه من آراء وتصورات حول الخالق والكون والإنسان والتشريعات والأمور الغيبية والتي لم تتجاوز حدود الرأي إلى العنف المسلح والإكراه وبين الحركات التي اتخذت من الأفكار والتصورات منطلقا لها لهدم الإسلام والخروج على تعاليمه الناظمة للمجتمع والدولة قما يعتقده الإنسان من تصورات وأفكار لم تتخذ من العنف المسلح سبيلا لفرض رأيها بالقوة هو محل احترام ونقاش وتبادل وجهات النظر فهؤلاء هم المعتزلة وتعتبر فرقة المعتزلة من أهم الفرق الكلامية التي نشأت داخل الدولة الإسلامية وترعرعت فيها ولم تقابل بالعداء من المسلمين وإنما قوبلت بالنقاش والحجة والبرهان وقد وصل إلينا إرثا علميا ذاخرا من المناقشات والكتب والحوارات العلمية التي حصلت بين المعتزلة وبين أهل السنة في مواضيع كلامية كثيرة.

وأما الحركات التي اعتمدت على العنف المسلح سبيلا لفرض أفكارها بالقوة في المجتمع كحركة الخوارج فقد قوبلت بالعداء والتصدي لها عن طريق الحرب والقتال على الرغم من عدم تكفير جمهور أهل العلم للخوارج. ومن خلال هذا التفريق يمكن أن نميز بين حد الردة الذي يكون سببا للخروج عن نظام المجتمع وهذا يجب أن يقابل بالقوة والقتال باتفاق العلماء فهو يمثل جريمة الخيانة الكبرى في القوانين البشرية والذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى (وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

 

وقد ورد في سبب نزول الآية كان أحبار قرى عربيةَ اثني عشر حبرا فقالوا لبعضهم ادخلوا في دين محمد أول النهار وقولوا نشهد أن محمدا حق صادق فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمدا كاذب وأنكم لستم على شيء وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكون يقولون: هؤلاء كانوا معنا أول النهار فما بالهم. فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك. من خلال هذه القصة نجد أن العملية هي أشبه بعملية انقلاب على نظام الحكم والمجتمع وهذا الانقلاب يمثل خيانة ومؤامرة كبرى تهدف إلى زرع الشك بين صفوف المؤمنين لذلك كان الجواب حاسما بوجوب مقاتلتهم وقد أكد على ذلك المفهوم الفقه الحنفي ومما ذكر في كتبهم أن حد الردة يقام على الرجال لأنهم أهل القتال والحرب دون النساء فلا يتصور منهم الحرب أو القتال ولا يُخشى منهم.

وبين الآراء والأفكار والشبهات المقتصرة على حدود النقاش فهذه تحتاج إلى حوار وجدال وإزالة للشبهات والتحقق في مضمون هذه الأفكار هل تمثل ردة حقيقة وخروجا عن نظام المجتمع أم تمثل تصورات وأفكار معينة ومما يحب التأكيد عليه أن الكثير من المسائل التي أوردها الفقهاء في كتبهم على أنها ردة ولكنها لا تعتبر ردة حقيقة وإنما ذكروها من باب التهويل والتخويف وليس من باب الحقيقة وقد نقل الزركشي عما توسع به الحنفية في هذا الموضوع فقال (إن غالبه في كتب الفتاوى نقلاً عن مشايخهم وكان المتورعون من متأخري الحنفية ينكرون أكثرها ويخالفونهم ويقولون هؤلاء لا يجوز تقليدهم لأنهم غير معروفين بالاجتهاد ولم يخرجوها على أصل أبي حنيفة لأنه خلاف عقيدته إذ منها أن معنا أصلا محققا هو الإيمان فلا نرفعه إلا بيقين فلينتبه لهذا وليحذر ممن يبادر إلى التكفير في هذه المسائل منا ومنهم فيخاف عليه أن يكفر لأنه كفر مسلماً).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.