شعار قسم مدونات

الغربة.. أن تتقلب بين حب الاكتشاف والحنين القاتل

مدونات - الغربة

هي تلك التي تحلم دوماً بالتنقل داخل هذا العالم، تشعر دائماً بصغره أمام عينيها، تحلم برؤية الكثير، تعشق الترحال وعدم التقيد، وتؤمن وتوقن بقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" تتناغم مع محركات الطائرات، وضجيج المسافرين، وأصوات جرارات الحقائب! تُدّون كل فتره الأماكن التي تحلم بزيارتها. تبهرها المدن الجديدة، واختلاط أجناس البشر، وهمهمات اللغات الغير مفهومة! وقدرة الله في خلق الخلق، واختلاف شمس بلد عن قمر غيرها!

يتضارب الاستقرار داخلها، مع ذلك العشق المسمى بالسفر! بعد غربتها، ظنت أن الدنيا متساوية أمام عينيها، فكل غربة وانتماء لمكان بعد الأهل والوطن سواء! اعتادت فكرة الرحيل وتأقلمت معها، وأصرت على قدرتها! وسلّمت بأن الحياة والنجاح، يحاصره القوة والقدرة! وأن أقدار الله فينا ماضية، فلابد أن نمضي معها! هذا! هذا ما يراه غيرها، وتُذَكِّر به كل يوم عقلها، وتُشعِر به قلبها! والحقيقة: أن ما تردده كل يوم، وتُذكِّر نفسها به، لم يكن سوى ترف عبارات لطيفة تقرئها على جروبات الواتس آب صباحاً، وهي تحتسى القهوة الصباحية! لأن هذا الثبات والصمود الذي تـُشعِر نفسها به، وحدها فقط من واجه أمامه الوحدة، والغربة، والتيه، والضياع، واليأس أحياناً!

كل ناجح في غربته ليس بقادر، بل متغافل، وكل متعايش ليس بناسى، بل متغافل، وكل مبتسم ضاحك ليس بسعيد بل متغافل، وكل مُعمّر ليس بمستوطن بل متغافل..

ووحدها من واجهت التجربة، والفشل، والسقوط والخذلان، ووحده كرم الله ولطفه ومنّه الخفي، من أظهرها بهذا الثبات. إن فكرة البدء من جديد هي الفكرة المخيفة بالنسبة لها، أن يصبح ما تعيشه الآن، ماضياً بين لحظة وضحاها، أن تغوص في أشخاصاً جدد، تسمع حكاياتهم وتحاول لمس ماضيهم والتأقلم مع حاضرهم! وأن تعتذر في كل مرة، من أصدقائها القدامى، التي قصرت في السؤال عنهم! أن تعرض البطاقة التعريفية بنفسها في كل مرة، بذات الإرهاق والملل! أن تبحث عن ملاذ لنفسها، ومكان جديد تسعى أن تترك فيه أثر!

أن تكتب وحدها تاريخيها، وأن تضطر دائماً أن تكون بخير! أن تتوهم بأن جميع ما تركته، سيظل كما هو، وأنها ستعود يوماً، إلى مرتع شبابها وصباها! وأن تخشى الفقد! تخشاه بقوه، وتراه في منامها أحياناً، وتتوهمه مراراً وتدعو الله سبحانه بإلحاح على عدم حدوثه! أن تتحسس كل ما هو جديد بشعور الغربة، والصمت، لتجد نفسها يومياً لا تدري من هي! إن جميع ما كُتب عن الغربة والتأقلم معها، والإنجاز فيها، لا بد أن تعترف أنه يقابله جرحاً في القلب يدمي!

تعيش هي وتتعايش، ولكنها تستشعر قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما كان في المدينة، وسأل أصيل الغفارى بعد رجوعه من مكة : "يَا أَصِيلُ، كَيْفَ تَرَكْتَ مَكَّةَ؟" قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَسَنَ أَبْطُحُهَا وَانْتَشَرَ سِلْمُهَا، وَأَعْذَقَ ثِمَارُهَا، وَأَحْجَرَ إِذْخِرُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَيْهًا يَا أَصِيلُ، دَعِ الْقُلُوبَ تُقِرُّ قَرَارَهُ" وكأن النبي صلوات الله وسلامه عليه، في غربته في المدينة، رسم الطريق الوحيد لإقرار القلوب، وهو أن تتغافل عن ألم الغربة!

فكل ناجح في غربته ليس بقادر، بل متغافل، وكل متعايش ليس بناسى، بل متغافل، وكل مبتسم ضاحك ليس بسعيد بل متغافل، وكل مُعمّر ليس بمستوطن بل متغافل، وكأن شيئاً لا بد منه، ولابد من ألمه! هي ومن مِثلها من يتألمون بشدة، لا تسعهم أوطانهم وترهقهم البعد عنها، كالطفل الذي يتوه من أمه ليجري وراء ملهى ألعابه، وإذا ما اكتشف تيههِ عنها يصرخ مرارة فراقها! وهي وغيرها ربما لا يعودون، ولكنهم حتماً يتألمون، ولكن لا سبيل لها ولهم سوى التغافل! فتظل هي هي، تذّكر نفسها بالتغافل والقوة، تنجح أحياناً وتفشل أكثر، وتصر أكثر وأكثر.. وتظل الغربة غربة، عملة ذات وجهين، ما بين عشق في اكتشاف مجهول قادم، وحنين قاتل لكل ما هو متروك ماضٍ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.