شعار قسم مدونات

كيف يحرر الحجاب المرأةَ من قيود الرأسمالية؟

blogs الحجاب

إن الإنسانية اليوم تهتز طربا، مفتخرة بأحد أهم منجزاتها الحضارية في العقود الأخيرة ألا وهو: القضاء على سوق النخاسة، هذا السوق الذي كان يباع فيه الإنسان بأبخس الأثمان، فيأتي صاحب المال ويمسك بأذن أخيه الإنسان ويقلِّبه بين يديه تقليبه للسّلع، في انتهاك صارخ لكرامته وقداسته. إلا أن زهونا لم يدم طويلا وسرعان ما تحول إلى غمة وغصة تُنغص علينا فرحتنا بهذا المنجز العظيم، حين نصب أرباب الأموال مسارح هذا السوق مرة أخرى، بعد أن تغيّرت ملامحه، فهو سوق كوني عالمي، يشارك فيه الجميع، ويُروِّج له المشاهير من أنحاء العالم، لكيلا ينتبه الناس بأنهم يتحولون إلى أشياءَ مادية لا قداسة لها، قابلة للتّسليع، أحيانا تُسلّع عواطفنا ومشاعرنا أو ربما أفكارنا وعلاقاتنا، لنصل في النهاية إلى تسليع أجسادنا. الإنسان الذي يُستخدم كسلعة في المجتمع الرأسمالي المعاصر لا يشعر بالانتهاك الصارخ لكرامته، ولا يسعى لفك قيوده من الشركات العالمية، وهذا ما يجعله أقل شأناً من العبد الذي كان يباع في سوق النخاسة وهو كاره للسوق والبائع والمشتري، ويسعى لاسترداد كرامته وحريته.
 
إن الرأسمالية التي استطاعت اليوم أن تُسلّع الإنسان، بالغت في الاهتمام على وجه الخصوص بالمرأة وجسدها، فتمكنت من إخضاع ملايين النساء إلى أذواق الماركات العالمية وساحات الموضة، بل وحولت أجسادهن إلى أسواق مفتوحة، تمطر على أصحاب الشركات وابلا من الأموال، وذلك بفرضها معايير موحدة للجمال، بحيث إذا خالفتها المرأة عدها الناس قبيحة، "نحافة الخصر، نعومة البشرة والشعر، تكبير الأثداء والأرداف، شكل العين ولونها، الأظافر، الشفاه…إلخ"، لتطرح في المقابل منتجات للتنحيف والتسمين، وتبييض البشرة وترطيبها، تجني من خلالها أرباحا خيالية.

ناهيك عن عمليات التجميل الهائلة كما وكيفا، بالإضافة إلى الأزياء والألبسة التي تختارها شركات الموضة وتنشرها من خلال الدعاية والإعلان، واستخدام المشهورين من الممثلين واللاعبين وغيرهم، في سيل لا يتوقف من التحديثات، حيث تباع الأطنان من الأزياء اليوم لتصبح بعد شهرين غير صالحة للاستعمال، لأن الموضة قد تجاوزتها! وهكذا تخضع المرأة (المتحررة)_بزعمهم_ إلى قيود شركات الموضة والتجميل، حيث أنه و بعد أدنى تأمل لواقع المجتمعات التي تخضع لهيمنة هذه الشركات يظهر لنا جليا أن المرأة تضطر لدخول لعبة الجمال هذه فقط من أجل أن تحظى بالقبول وتتجنب الرفض المجتمعي.

كما تتعرض المرأة التي يتشدقون بأنها متحررة لانتهاك صارخ لكرامتها الإنسانية، من طرف الشركات العالمية، وذلك باستخدام جسدها في الإعلانات كوسيلة للإغراء وجلب الزبائن وزيادة الربح، يظهر كل هذا بجلاء في الإعلانات التلفزيونية حيث لا تعرض المنتجات إلا بواسطة النساء، حتى ولو كانت منتجات رجالية كشفرة الحلاقة مثلا، فضروري تصوير المرأة الجميلة التي تقوم بمس ذقن الرجل الناعم ممثلة مشاعر الإغراء والانتشاء في رسالة غير مباشرة للرجال _حتى تكون أكثر إغراءً للمرأة ينبغي أن تستعمل هذه الشفرة_ والأمر ذاته في معارض السيارات حيث تصاحب كل سيارة شابة حسناء لتعرضها على الزبائن، وفي المحلات تختار الفتيات الجميلات من أجل البيع والاستقبال، ويزداد هذا الانتهاك تطرفا حين يُستخدم عضو واحد من جسد المرأة من أجل الترويج لمنتوج ما (الساقين، الصدر، الشعر..إلخ).

إذا ما هي علاقة الحجاب بالرأسمالية؟
انقسمت شركات الموضة في كيفية غزوها للباس المرأة المسلمة، فبعض الشركات تعمدت اختزال لباس المرأة المسلمة شيئا فشيئا حتى لم تُبق منه إلا خرقة على الرأس

يقول الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في كتابه روح الحجاب: "التحضر ليس هو ملاحقة الأزياء التجارية بل هو التحرر من قيود الشركات العالمية". من هنا يأتي دور الحجاب كوسيلة قوية لتحرير المرأة من قيود لعبة الجمال العالمية كما وصفتها الفيلسوفة كاثرين بولوك في كتابها عن الحجاب، وليثبت أن قبول المرأة ورفضها يتم أولا وقبل كل شيء من خلال أهليتها وكفاءتها، لا من خلال جمالها وإغرائها، وليؤكد بأن مظاهر الجمال والتزين بالنسبة للمرأة المسلمة ليست منعدمة وإنما تتسم بالخصوصية، فهي تتفنن في إظهار مفاتنها وجمالها وزينتها في بيت زوجها أو في الحفلات والمناسبات مع النساء، فهي ليست مضطرة لممارسة الإغراء في طريقة لبسها أو تزينها أو كلامها من أجل أن تحظى بالقبول في مجتمعها، إن حجابها يدفع المقابل لها ليحكم عليها من خلال كفاءتها لا من خلال جمالها.

وهنا واقعة عجيبة نقلتها كاثرين بولوك في كتابها عن الحجاب ونظرة الغرب له: "عندما رأت فيرونيكا دبلداي النساء في هيرات _يوم أن زارت أفغانستان_ يرتدين أجمل ثيابهن ويستمتعن بعرض أنفسهن بعضهن لبعض علّقت بأن ذلك يبدو غريبا لنا نحن النساء الغربيات". أي لماذا تتعب المرأة في تزيين نفسها إذا لم يكن الرجال من ضمن الحضور؟ إذا وبما أن الحجاب يوفر للمرأة تحكما أوسع في خصوصياتها، ويحميها من الاستهلاك العام فهو يقف ضد مصالح الرأسمالية القائمة على سلعنة الإنسان والمرأة على وجه الخصوص، وتعريضها للاستهلاك العام، وهذا دافع مهم يجعل من غزو الحجاب أمرا لا مفر منه.

أما الدافع الثاني هو إخضاع الحجاب لسيطرة الشركات العالمية، بحيث تتحكم فيه قوانين الموضة، فيتحول إلى سوق عالمية مستقلة بذاتها تدِّر أرباحا خيالية، تفوق ل400 مليار يورو بحسب قناة .dw الألمانية وليس غريبا أن نشهد تسابق شركات الموضة العالمية مثل: Tommy Hilfiger وDKNY و Dolce Gabbana وH M وغيرها تتسابق من أجل تصميم أفخم الأزياء للمحجبات، حيث قامت بفتح معارض وصالونات فخمة، مسخِّرة لذلك عارضات الأزياء والمصممين من مختلف أنحاء العالم للسيطرة على هذه السوق الجديدة. وقد انقسمت شركات الموضة في كيفية غزوها للباس المرأة المسلمة، فبعض الشركات تعمدت اختزال لباس المرأة المسلمة شيئا فشيئا حتى لم تُبق منه إلا خرقة على الرأس، أصبحت هي الحجاب في نظر الكثير، وبالتالي يمكن للمرأة أن ترتدي أحدث صيحات السراويل المخرّق والمقطّع، وأحدث صيحات القمصان، التي ترتديها غير المحجبة مع بقاء الخرقة على الرأس.

والبعض الآخر من الشركات، وعلى رأسها الشركات التركية استهدفت الطبقة المحافظة من المسلمات التي تحاول قدر المستطاع أن تُفلت من قبضة شركات الموضة الخانقة، فصمّمت لها ألبسة تحافظ على الشكل العام للحجاب لكنّه يخضع لمعايير الموضة العالمية، حيث تختلف الأشكال والألوان من موسم لآخر. ومن الطريف أن الشركات الرياضية العالمية مثل: nike سارعت لتحصل على نصيبها من الكعكة، فقامت بتصميم أزياء رياضية للمحجبات، خاصة بعد موجة البوركيني العارمة. لينتقل الحجاب من قيمه الأخلاقية كالاحتشام والستر والعفة، إلى قيم السوق والتجارة وشركات الأزياء والموضة العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.