شعار قسم مدونات

عبيد الله بن الحر.. الناس في زمن الثورات

BLOGS غزوة بدر

رجل من غمار الناس، لم يكن زعيماً سياسياً، ولم يكن رجلَ دينٍ، ولم يكن مُصْلِحاً اجتماعياً، لم يكن من هذا كله في شيء، بل ولم يَدَّعِ شيئاً من هذا؛ بل كل ما قيل عنه إنه كان رجلاً فاضلاً من أشراف الناس، ولا يقصدون بالشرف هنا أنه كان من أغنى الناس، أو أنه كان من سادات قومه، بل يقصدون أنه كان كل ما يتصف به مروءته وكرمه وشجاعته. كان رجلاً يحمل في طياته كما تحمل كُلُّ نفسٍ الخيرَ والشرَّ، ويحاول جاهداً أن يبتعد عن الشر كلما اقترب منه، كان كل ما يتصف به عبيدالله بن الحر ويتعصب له هو مروءته وكرامته وشرفه.

 

يجاهد في سبيل الله حينما يُطْلَب منه الجهاد، فشارك في معركة القادسية وحارب في جلولاء ونهاوند، لا ينزع يداً من طاعةٍ إلا حينما تُنزع، بل أكثر من هذا أنه لم ينازع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- البغضاء، بل كان يحبه أكثر ما يكون الحب، وربما أحب عبيدالله بن الحر عثمان بن عفان لقُرْب التشابُه النفسي بينهما، فكان يرى في عثمان مرآة نفسه من جُود عثمان وكَرَمه.

كان عبيدالله -كما قلنا- يحب عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولما قُتِل عثمان شارك معاوية بن أبي سفيان في حربه ضد علي بن أبي طالب حُباً في عثمان وليس كُرهاً لعليّ أو تملقاً لمعاوية، إنما دفعه إلى ذلك الحب، وهو حب لا يستطيع معه المُحِبّ أن ينتظر حتى يستقر نظامٌ أو تُقام دولةٌ أو يستتبَّ أمنٌ، وليس علينا أن نحاسب الناس على الحب الذي يكمُن في قلوبهم، فيحركهم من غير إرادةٍ منهم، وفي طريقٍ ربما يبغضه الناس عليهم.

 

عبيدالله رجل تعتريه كل ما يعتري النفس البشرية من حب وخوف وشجاعة في زمنٍ كان الخوف محيطاً بكل شيء، يملأ الخوف النفوس فيتقدم هذا ويخاف آخر من الإقدام

أظن أن عبيدالله بن الحر كان يحارب عليَّ بن أبي طالب وهو يعلم علم اليقين أن عليًّا سيد العادلين وإمامهم، فلقد كان عبيدالله متزوجاً من امرأة في الكوفة وكان يسكن الكوفة مع امرأته، ولما رحل إلى الشام للالتحاق بمعاوية غاب عن امرأته التي كانت تسكن الكوفة (كانت الكوفة مقر جند عليّ)، فقام أخوها بتزويجها من رجلٍ يُدْعَى عكرمة بن الخبيص، فلما علم عبيدالله بذلك رجع إلى الكوفة واختصمها هي وأخاها إلى عليّ قائلاً له: أعرف عدلك وأعرف أنك ستنصفني، ولقد قال ذلك وفي قرارة ضميره عدل عليّ، وعليّ يعرف أنه لا يتملقه، فحكم له عليّ برد امرأته له وعاد بها إلى الشام.

أظن أيضاً أن عبيدالله كان يحارب مع معاوية وفي نفسه بعض الشيء لمعاوية، فلقد علم معاوية أن عبيدالله يجتمع إليه جموعٌ من أصحابه؛ فسأله معاوية عن هؤلا النفر وعلاقته بهم، فقال عبيدالله: بطانتي وأصحابي وإخواني أتقي بهم إن نابني أمر، أو خفت ظلامة من أمير جائر، فقال له معاوية: كأن نفسك قد تطلعت إلى عليّ بن أبي طالب، فقال له عبيدالله: إن عليًّا لعلى الحق وأنت بذلك عالم.

إن عبيدالله كان واضحاً مع نفسه أشَدَّ الوضوح يعلم أين يكمُن الحق، ومع ذلك فهو لا يستطيع أن يكبح جماح نفسه ليثنيها أن تميل إلى من تُحب، وعبيدالله لم يكن يتملق معاوية، ولم يكن يريد منه مالاً ولا جاهاً كما أراد غيره، ولو أراد لأعطاه معاوية ما يريد، كل ما أراده عبيدالله القصاص لمقتل مَن أحب وهو عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ومعاوية يرفع رايات القصاص، فلم يكن لعبيدالله بُدّ إلا أن يلتحق بمعاوية للقصاص من قَتَلة عثمان.

مات عليّ ومات معاوية وخرج الحسين بن عليّ يريد الكوفة لقتال جيش يزيد بن أبي سفيان إثر دعوة أهل الكوفة ونَقْضهم بيعة يزيد، وعبيدالله رجل من أهل الكوفة يعرف نفوسهم أشَدّ المعرفة، ويعرف أن أهل الكوفة لن يَصلوا بالحسين إلى ما يريد أن يصل إليه، فهرب من الكوفة وبعث إلى الحسين قائلاً له: إنني ما هربت من الكوفة إلا لأتقي لقاءك، فإنني إن حاربتك كان ذلك إثماً عظيماً، وإن حاربت معك أخاف ألا أقتل فأكون مقصراً، وأنا أحمي آنفاً من ذلك.

ربما يقول الناس: إنه كان من الطبيعي أن يكون عبيدالله مع الحسين محارباً فهذا مما يتفق مع أخلاقه ومروءته، ولقد وهم الناس ذلك كما توهمت، وخُدِعُوا بكلمات عبيدالله كما خُدعت، ومن أجل ذلك نُفْرِد لعبيدالله الصفحات لنعرف مدى ما تتشبع به النفوس والعقول في أيام الثورات.

يأخذ عبيدالله حقه من بيت مال المسلمين بالقوة، وهو شيءٌ من الممكن ألا يستسيغه عامةُ المسلمين ولا يرضى به الإسلامُ، لكنَّ الفوضى التي كانت في كل مكانٍ في أرض الإسلام هي ما دفعت عبيدالله لذلك

إن عبيدالله رجل تعتريه كل ما يعتري النفس البشرية من حب وخوف وشجاعة في زمنٍ كان الخوف محيطاً بكل شيء، يملأ الخوف النفوس فيتقدم هذا ويخاف آخر من الإقدام، وعبيدالله لا يدَّعِي الشجاعة والإقدام في مواطن كانت الدماء أيسر شيء على نفوس الخصماء، عبيدالله رجل يحب الحياة ومتعها ويتردد كثيراً بين الحياة والموت فيختار الحياة في نهاية الأمر.

تقدَّم الزمن بعض الشيء ومات يزيد، وهاجت الفتن في كل مكان، ورُفِعَت في كل مكان راية تريد خلافة المسلمين: (عبدالله بن الزبير في الحجاز، ومروان بن الحكم في الشام، والمختار الثقفي ثائراً بالكوفة)، فلم يأبَهْ عبيدالله بن الحر بأي شيء من هذا، ولم يأبَهْ بأي نظام من هذه الأنظمة ولا بأي ثورة من الثورات فأخذ يُغير على الكور ويأخذ حقه وحق أصحابه من بيت المال، لا يزيد على حقه شيئاً ولا ينقص منه ويبلغ صاحب المال بذلك، فبلغ ذلك مصعب بن الزبير وكان عاملاً لأخيه عبدالله على العراق، وأمر مصعب بقتال عبيدالله أو الدخول في بيعة عبدالله بن الزبير، فرفض ذلك عبيدالله وقال: علام تستحل حرمتنا ونحن أصحاب النخيلة والقادسية وجلولاء ونهاوند نلقى الأسنة بنحورنا والسيوف بجباهنا، ثم لا يُعرف حقنا؟ فمات في نهاية الأمر بسيف مصعب.

يأخذ عبيدالله حقه من بيت مال المسلمين بالقوة، وهو شيءٌ من الممكن ألا يستسيغه عامةُ المسلمين ولا يرضى به الإسلامُ، لكنَّ الفوضى التي كانت في كل مكانٍ في أرض الإسلام هي ما دفعت عبيدالله لذلك، لم يكن عبيدالله بعد موت يزيد يبالي بأي نظام فقد كان يراهم كلهم عصاة، وكانت غاية كل أمير أن يميل إليه عبيدالله مبايعاً له بالخلافة، فكره عبيدالله كل هذا وزهد فيه.

نحن كما قلنا نتتبع سيرة عبيدالله بن الحر محاولين أن نعرف حياة النفوس في زمن الثورات، وما تحمله من اضطراب على ما فيها من روعة الضمير ونقاء السريرة، فقلما تستقيم نفس في أيام المِحَن على روح العدل ومنازل اليقين، فطوبى للشهداء والصالحين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.