شعار قسم مدونات

رحلتي من الفيزياء إلى الصحافة!

blogs مكتبة

أتذكر عندما كنت تلميذة في السنة الثالثة إعدادي، وكان علي أن اختار بين مسلك العلوم أو الآداب، كانت كل مهاراتي أدبية، أعشق الشعر وأخوض في بحاره رغم صغر سني آنذاك، وأجمع مصروف الأكل المدرسي لاقتناء الروايات والجرائد العربية، وأطل كل صباح من الإذاعة المدرسية أقدم آخر أخبار الأنشطة المدرسية، كان ينتابني شعور عظيم وكأنني بهيئة الإذاعة والتليفزيون البريطانية بي بي سي، ولأن المجتمع والوسط العائلي ترسخت لديه فكرة مغلوطة حول الأدب والعلوم الإنسانية، على أنها شعب هجينة يسلكها الكسالى ولا مستقبل لها، اخترت أو بأحرى هم اختاروا لي أن أسلك العلوم اضطراريا، لكن عقلي وقلبي بقيا معلقان داخل تلك الحجرة الصغيرة بين أسلاك الراديو المتواضع الذي اشتريته أنا وبعض زملائي التلاميذ الذين كانوا يشاركونني نفس الحلم.

  
بعد أن سلكت هذا الطريق الذي لا يشبه طموحاتي ولا أحلامي الطفولية عندما سألتني المعلمة ذاك السؤال الأزلي ماذا تريدين أن تصبحين عندما تكبرين؟ كنت أعتقد ببراءة طفلة لم يتجاوز عمرها الثمان سنوات بعد أن الأرض ستكون مفروشة بالورود لي وأن العالم كله سيقف معي يرشدني إلى ما أرغبه بشدة، لم أكن أعلم أنني سأصبح ضحية لعقد مجتمعية مريضة. عندما كنا صغارا لم نكن ندري أن الحياة تهيئ لنا تحديات أصعب من الجواب على ذاك السؤال، ماذا لو صارحتنا المعلمة في ذاك اليوم بالحقيقة وبالواقع، وعلى أنها كانت تريد أن تصبح طبيبة بدلا من معلمة، وعلى أنها اختارت هي الأخرى أن تختصر الطريق لتعين أسرتها الفقيرة، ربما كانت اختصرت لنا مراحل كثيرة اضطررنا لقطعها، أو ربما تركتنا عن قصد لنتعلم كيف نواجه المجتمع وألا نستسلم مثلها.

 
كنت في كل يوم أهرب من نظريات فيتاغورس الكئيبة، ومعادلات الدرجة الاولى والثانية والثالثة، ومن ذاك المجهول "X”، والتفاعلات الكيميائية بألوانها المختلفة، لأرتمي بين أحضان المعلقات الشعرية، والمقالات الأدبية، وأزاحم زملائي تلاميذ الأقسام الأدبية في السر، كأني ارتكب جرما أو شبهة. لا أقصد أبدا الإساءة للعلوم الطبيعية، فنظرياتها ساهمت كثيرا في تطور التاريخ البشري المجرد، ورغم أنها لم تكن تشبهني إلا أنني كنت أدرسها بضمير لكي أتفوق فيها لإرضاء عائلتي والمجتمع الشامت، وأستطيع من خلالها أن أصل إلى حلمي الحقيقي.
   

وجب علينا التحلي بالصبر، وإذا بدا لنا أن الأمور تزداد سوءا وتعقيدا، يجب البحث عن طريقة مختلفة لإنجاز الأهداف المسطرة، واتخاذ الهزائم الصغيرة لتحسين النفس، والبدء خطوة بخطوة حتى تصبح الأحلام حقيقة واقعية

وبالفعل بعد حصولي على شهادة البكالوريوس في العلوم الفيزيائية و الكيمياء، قررت في تلك الليلة أنني لن أسمح لأي شخص أن يحول بيني وبين أحلامي وسأحارب لأصبح تلك الصحافية التي كانت تطل كل صباح من الإذاعة المدرسية. أعلم أنني لم أصل بعد إلى حلمي الأكبر كصحافية كبيرة تستحق قصتها أن تكون مصدر إلهام، ولكنني على الأقل أعلم أنني أسلك اليوم الطريق الصحيح، وأتمنى فعلا من الآباء والأمهات الواعين، رجاءا اتركوا أبناءكم يسعون وراء أحلامهم وآمالهم، دعوهم يدرسوا ما يرغبون، ويعملوا فيما يحبون، ساعدوهم بالعون والاستشارة والحب، وليس بالدفع والضغط والإكراه.
  
أبناؤكم ليسوا مسؤولين عن تحقيق أحلام غيرهم أو جبر كسور آمالكم، أو لتنافسوا بهم في سباق ثنائية العلمي والأدبي، أبناؤكم قد يسيرون في طريقكم أو أي طريق آخر، إذا رغبوا فيه أو أحبوه، ولكنهم حتما لن يسيروا في أي طريق دفعوا إليه أو سلكوه مجبرين أو تحت إغراء عطاياكم أو بسيف حياء بركم. فضلا ارفعوا أيديكم عن أحلامهم وأمنياتهم ولا تفرضوا عليهم خارطة طريقكم، وأنتم أيها الطامحون مثلي‏ حاربوا من أجل أحلامكم، ولا تلتفتوا لأحد يقلل من شأنها، فالذين يسخرون منا اليوم سيكونون في الغد ضمن طابور المصفقين، فتحقيق الأحلام لا يحتاج إلى قوة الإرادة فقط، أو الاستعداد للتغيير، أو امتلاك مجموعة من المهارات، بل تكمن القوة في تحقيق أحلام الفرد بذاته وقوة إيمانه، فإذا استطاع الإنسان أن يُعطي لنفسه الصورة المستقبلية التي سيكون عليها يوما ما فإنه سيُحدث التغيير الفعلي في حياته، وسيحصل على النتائج التي يتمناها.

 
يمكننا تخيل العالم بالتفصيل كيف سيبدو بعد تحقيق أحلامنا، فالتصور يحفز على تحقيقها، كون الإنسان يستطيع رؤية كيف أن هذا الحلم استطاع أن يغير حياته نحو الأفضل، كما أن كل شيء يبدأ بالقلب والعقل، وكل إنجاز كبير كان فكرة في ذهن أحد تجرأ على الحلم، دون السماح للغير بامتلاكه.  لذلك وجب علينا التحلي بالصبر، وإذا بدا لنا أن الأمور تزداد سوءا وتعقيدا، يجب البحث عن طريقة مختلفة لإنجاز الأهداف المسطرة، واتخاذ الهزائم الصغيرة لتحسين النفس، والبدء خطوة بخطوة حتى تصبح الأحلام حقيقة واقعية. لا تيأسوا، وقاتلوا من أجل طموحاتكم مهما كانت كبيرة أو صغيرة، وسواء استغرق تحقيقها عاما أو دهرا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.