شعار قسم مدونات

العراق.. فشل الدولة في أوضح صورة

blogs العراق

شهدت العراق منذ تاريخه المعاصر الكثير من الثورات والانقلابات العسكرية حتى بات يسمى ببلد الانقلابات، وبلد وضع الدساتير لكثرة وقوع الثورات وتغير الدساتير فيه، إلا أن الدولة ومؤسساتها والبنيه التحتية لم تتأثر بالشكل الكلي، وظلت قائمة إلى ٢٠٠٣، ولكن في ظل الاحتلال وإدارة العراق من قبل نخبة غير كفوءة ولا وطنية أفرزت حالة انهيار الدولة العراقية، وبدأت بالبنية التحية، وغياب عنصر القانون، وتحويل الدولة إلى إقطاعية كبيرة وحصص وزعت على أفراد وأحزاب سياسية على حساب المصلحة العامة والأمن القومي والاستراتيجي في العراق.

إن الانسحاب الأمريكي، وبداية الثورات العربية في الشرق الأوسط، جعل من العراق الساحة الأكثر هشاشه من الناحية الأمنية والسياسية وسرعان ما تحول إلى الحديقة الخلفية لتنفيذ الكثير من المخططات الإقليمية والدولية على حساب المصلحة العامة للعراق، والسؤال الذي يبادر إلى الذهن، هل من الممكن معالجة الأزمة الحالية من خلال الحكومة الجديدة وبرامجها التنموية، وإلى أي مدى ستكون حكومة عادل عبد المهدي قادرة على مواجهة هكذا معضلة؟ وهل هناك استراتيجية بناء الدولة لدى النخبة العراقية والأحزاب السياسية في العراق في المدى البعيد والمتوسط لاسترجاع حالة الدولة وهيبة القانون واسترجاع مركز الدولة العراقية في المحافل الدولية من خلال دوره السيادي وقراره الخارجي المستقل؟ وكيف يمكن بناء المؤسسات في بلد عانى الكثير من الأزمات الجوهرية في أخر عقدين من تاريخه الحديث؟ 

عملية إعادة بناء الدولة العراقية في ظل التشتت السياسي وحالة اللاانتماء الموجودة لدى النخبة قبل العامة من الناس تعرقل أي إصلاح استراتيجي تهدف بناء الدولة

إن عملية بناء الدولة كما أشار إليه "أندريس بريسون” عالميا تبنى على ثلاث أسس رئيسية وهي العامل الأمني، والسياسي والاقتصادي. إن بناء الدول بالأساس تشير إلى بناء السلام في المجتمعات التي تعاني من نزاعات إثنية أو دينية، وعلى أساس ذلك لا يمكن أن تتحقق بناء الدولة من غير الاستقرار الأمني، وذلك لكون الاستقرار الأمني العنصر الذي على أساسه تتحقق الأسس الأخرى، كعنصر الاستقرار السياسي وتفعيل المشاركة السياسية، وبعد ما يستتب الاستقرار الأمني والسياسي تفتح المجال أمام التنمية الاقتصادية والرفاهية على مستوى الفرد والمجتمع.

إن العراق رغم الحروب والصراعات التي حدثت في القرن الماضي والعقوبات الاقتصادية التي فرضت عليه دوليا بعد حرب الخليج الثانية، إلا أنه ظل الدولة المتماسكة من حيث البنيه التحتية، وكذلك عمل المؤسسات في إدارة شؤون البلاد بالصورة العملية التي حافظت على هيبة الدولة رغم أزماتها المتعددة، وبذلك تمتع البلاد بحالة الأمن العام ونوع من الاستقرار السياسي. إن العراق رغم إفرازات حرب الخليج الثانية ظل حدوده مصانه، واحتفظت النظام العراقي بنوع من القوة المرنة القائمة على الخلفية التاريخية لقوة العراق ودوره الإقليمي ويما يتعلق بالخليج والتوسع الإيراني خارج حدوده، خاصة في الدول التي تواجدت فيها أقلية شيعية.

إن الاحتلال الأمريكي استهدفت العراق في الصميم، وعملت على تدمير العراق كدولة وليس فقط تغير النظام الدكتاتوري والشمولي التي خرجت من الوصايا الأمريكية بعد حرب الخليج الأولى، فالنظام البعثي بعد حرب الكويت انصدم بمخطط أمريكي قائم على انتهاء دوره في منطقة الخليج، وعليه فإن إحدى إفرازات تغيير الموقف الأمريكي كانت إعلان حالة الحرب غير مباشرة مع العراق، ومن ثم الحرب المباشر من خلال احتلال العراق. وهو ما أنتج حالة فشل مفهوم الدولة في العراق. 

إن عملية إعادة بناء الدولة العراقية في ظل التشتت السياسي وحالة اللاانتماء الموجودة لدى النخبة قبل العامة من الناس تعرقل أي إصلاح استراتيجي تهدف بناء الدولة، وحتى إذا ما بدأت تحتاج لعقود من العمل الدواب على غرار النموذج الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية. إن العراق تعاني من أزمة غياب القيادة الوطنية التي تنتمي إلى العراق قبل الدول الإقليمية والمصالح الفئوية الضيقة، وبذلك تحولت الممارسة السياسية في هذا البلد إلى تجارة، وتحول السياسي إلى أصحاب الملايين في الوقت الذي يعاني فيه الفرد العراقي من أشد الظروف الاقتصادية في ظل التدمير الذي حصل في الكثير من المناطق بعد دخول داعش، واستمرار حالة الاستنزاف الاقتصادي القائم على الفساد السياسي والإداري والاقتصادي، وعليه إن عملية البناء تظل مرهونة التطورات الداخلية والتدخلات الخارجية التي جعل من العراق ساحة للتصفيات خاصة بين طهران وواشنطن. 

إننا أمام أزمة اقتصادية لا تبشر بالإيجابية وتعرقل الكثير من المسارات التنموية في البلد وتعيق خطط البناء لدى الحكومة العراقية القادمة
إننا أمام أزمة اقتصادية لا تبشر بالإيجابية وتعرقل الكثير من المسارات التنموية في البلد وتعيق خطط البناء لدى الحكومة العراقية القادمة
 

أنا لست بصدد الحكم على حكومة عبد المهدي، وبالتأكيد يتطلب التقييم فترة زمنية، ولكن الصراع على المناصب والنفوذ وعدم قدرة رئيس الوزراء من اعتماد عنصر الكفاءة في التشكيل الوزاري الجديد تضع النقاط على الحروف وتحدد لبداية ضبابية لحكومة تواجه أشد الظروف الأمنية والاقتصادية، فالسياسة العامة في العراق غير قائمة على دراسة المصالح العليا للعراقيين، ولا السياسة الخارجية انعكاس لروية العراق في البعد الدولي. إضافة إلى ذلك تحديد مناصب سيادية وفق صفقات مشبوهة لا تخلو من التدخل الإقليمي خارجيا، وصفقات مجاميع الضغط داخل الأحزاب السياسية في البعد المحلي.

إن العراق أمام مفترق طرق فيما يتعلق بالعناصر الأساسية لبناء الدولة (الأمن، الاستقرار السياسي، والاستقرار الاقتصادي)، إن خطر داعش وكذلك الدور المتزايد للميليشيات العقائدية تهددان الاستقرار الأمني المطلوب لبناء المؤسسات في العراق، وفي الإطار السياسي لا تزال الولاء في العراق غير عراقي، وتحويل الأحزاب إلى أداة إقليمية تهدد الكيان الوجودي للدولة العراقية.

 

أما الحالة الاقتصادية فقد أعلنت مسودة الميزانية العامة لسنة ٢٠١٩ بعجز تجاوز ١٩ ترليون دينار عراقي، وحسب تقارير البنك الدولي ستصل مديونية العراق الخارجية إلى حوالي ١٢٣ مليار دولار في عام ٢٠١٩ تقابله حاجة العراق إلى عمليات بناء واسعة الناطق في المحافظات الشمالية والوسطى بعد تهجير أهلها جراء الحرب على تنظيم داعش الإرهابي لأكثر من ثلاثة أعوام. وبناءا على الأرقام والمعطيات الاقتصادية فإننا أمام أزمة اقتصادية لا تبشر بالإيجابية وتعرقل الكثير من المسارات التنموية في البلد وتعيق خطط البناء لدى الحكومة العراقية القادمة. ومن أجل إعادة بناء الدولة في العراق يتطلب الأمر دراسة استراتيجية وخطة سياسية تتجاوز حالة التوافقات والمخاصصة التي دمرت أي بادرة باتجاه حكم القانون والمؤسسات، وعرقلة عملية الانتقال الديمقراطي في العراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.