شعار قسم مدونات

الصحافة العربية ومنشار الديمقراطية!

BLOGS خاشقجي

ثلاث حقائق تصدّرت الواجهة مجدّدًا في أعقاب اغتيال الصحافي الحر جمال خاشقجي، تستدعي التوقف عندها لمعرفة مستقبل الصحافة العربية:

الأولى: أن عمليات الاغتيال والاختطاف والاعتقال والتهديدات المختلفة التي تطال صحافيين في العالم العربي لم يكن يومًا سببها سبقًا صحافيًّا يكشف عن فساد وجوه السلطة كما يحدث في مناطق عديدة من العالم، كحالة الصحافية الروسية آنا بوليتكوفسكايا (٢٠٠٦) والأميركيّيْن تشونسي بيلي (٢٠٠٧) ومايكل هاستيغنز (٢٠١٣) واليوناني سوكراتيس جيولياس (٢٠١٠) وصولاً إلى المالطية دافني كاروانا غاليزيا (٢٠١٧) وغيرهم ممن قَضَوا على يد عصابات وجماعات نفوذ وتنظيمات مسلحة، إنما يُضطهد الصحافيون العرب في بلادهم وتتم تصفيتهم لموقفٍ أو رأي حرّ غالبًا ما يدعو إلى تحقيق الإصلاح وصناعة الوجه الحيوي للتجربة الصحافية العربية.

فمن المعتقلين مروان المريسي وصالح الشيحي وفايز بن دمخ إلى رائف بدوي وإيمان آل نفجان ونوف عبد العزيز وصولاً إلى اغتيال خاشقجي بطريقة سادية، لم تكن أسباب الانتهاكات بحق هؤلاء نشر ملفات سرية تطيح بالعهد الجديد، أو تحقيقات استقصائيًّة تكشف جرائم منظمة في بلدهم، وإنما السبب دعوات لقبول الرأي الآخر وتبنّي مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتطبيق الإصلاح المنبثق من تجاسر العلاقة بين النظام والشعب ومشاركة الأخير القرار. وفي سوريا حيث قُتل أكثر من ٤٠٠ صحافي وناشط إعلامي منذ بداية الثورة، ٢٩ منهم على الأقل قضوا تحت التعذيب في أقبية سجون النظام السوري ومعتقلاته المعروفة بالمسالخ البشرية، لم يكن السبب إلا المطالبة بإجراء سلسلة إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية.

وفي مصر، يقبع ٩٤ صحافيًّا في السجون تحت وطأة التنكيل النفسي والجسدي غير المبرّر، بتهمة التّعبير عن آرائهم، وقد بات قرار إعدام الصحافة المصرية رسميًّا بعد موافقة الرئيس عبد الفتاح السيسي على اقتراح الهيئة الوطنية للصحافة باتخاذ سلسلة إجراءات تمهّد لدمج الصحف القومية التي تعتبر بوقًا للحكومة، لتصبح صحافة الرأي الواحد. كذلك، ففي لبنان دفع العديد من الصحافيين دماءهم ثمنًا لمواقفهم وآرائهم السياسية والفكرية، من نسيب المتني وكامل مروة وسليم اللوزي ورياض طه إلى سمير قصير ومي شدياق – التي نجت بأعجوبة من محاولة اغتيال- وجبران تويني وغيرهم. واللائحة تطول ويجري تحديثها باستمرار، والسبب أن المنسوب الديمقراطي في الأنظمة السياسية منعدم، فكيف لمقوّمات الصحافة الاستقصائية أن تتوفّر!

بشاعة جريمة قتل خاشقجي هي بمثابة رسالة لكل صحافي أن الديمقراطية التي ينادي بها في العالم العربي ستتحوّل منشارًا لتقطيع أوصال جسده

الحقيقة الثانية، أن اغتيال خاشقجي لم يكشف الخلل المهني والأخلاقي في وسائل الإعلام العربية، بما فيها اللبنانية، فهذه مسلّمة مفروغ منها وليست موضع جدل، لكنها بتلك الواقعة المؤلمة جاشت بغُثائها حتى فقدت البوصلة تمامًا. فلا يهمّ ما إذا كانت المعلومات أخلاقية بقدر ما يهمّ أن تكون مثيرة ومحفّزة لجذب انتباه مموّلي المؤسسة الإعلامية وكسب ودّهم وارتفاع رصيدها لديهم. ولئِن جاء مقتل خاشقجي صادمًا ومرعبًا وموجعًا بوحشِيّته، فقد وضع بعض الصحافيين أمام تحدٍّ أخلاقي فشل في اجتيازه، فيما كان المنتظر من هذا البعض أن يؤثر السلامة ويلتزم الصمت بدل الرقص على الجثّة والنّزوح بمهنة الصحافة من جليلة إلى ذليلة.

هذا الأمر فتح بابًا جديدًا للنّقاش حول أهمّية إدراك دور الصحافة الأخلاقية وتعزيزها وتحديد الحالات التي يجب أن يميّز فيها الصحافي بين الالتزام السياسي والاستقلالية عن القوى السياسية، وبين الحقيقة والاستعراضية، وبين صحافة الرّسالة وصحافة الاسترزاق، وبين الواجب المهني وواجب الخدمة والطاعة. فالصحافة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون ممارسة مهنية، والإقرار بما تعانيه الصحافة في بلداننا من سياسات كمّ الأفواه والإذعان للسلطات الحاكمة والقوى المموّلة لا يبرّر تراجع أخلاقيات الصحافي.

الحقيقة الثالثة والأهم، انعدام فرص التلاقي بين الأنظمة السياسية الحالية والصحافة العربية – باستثناء الموالية منها طبعًا- إذ يستحيل على الأولى تقبّل الثانية والنظر إليها من منطلق المكمّل الطبيعي لعملها كما هو حاصل في الأنظمة الديمقراطية، حيث تستقر العلاقة بين الطرفين على أسس : التعاقدية – غير المكتوبة- المستندة إلى الاتفاق على الدستور وقواعد اللعبة السياسية، وتبادل المنافع الذي يسمح للصحافيين بالتعبير الحر عن آرائهم مع التأكيد على عدم مناهضة أسس النظام، والتحكّم الذاتي الذي يلزم الصحافة بعدم انتهاك الخصوصية والقذف والتشهير في مقابل إلزام الحكومة بعدم فرض أية واجبات على الصحافة، فيتكاتف الطرفان لبناء دولة الرفاهية "Welfare State".

ولأنّ الإعلام العربي – باستثناءات قليلة – هو إعلام الصوت الواحد لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية، ستبقى الصّحافة مقيّدة وحريّة التّعبير معدومة. لذا، فإن من أبرز تداعيات جريمة اغتيال خاشقجي، أنها أثبتت صدق مقولته: "الديمقراطية هي الحلّ"، فإذا غُيّبت الكلمة الحرّة تعمّقت فجوات التباعد وعاشت بلداننا سنوات ظلامية طويلة، والقول أن لا ديمقراطيّة في مجتمع مُقعَد ومعطّل اقتصاديًّا وإنتاجيًّا هو أشبه بمتلازمة كوتار التي يتوهّم المُصاب بها أنه ميّت وبدأ يتعفّن ويتحلّل ويفقد أعضاءه وإحساسه بالواقع فيما هو في الحقيقة حيّ يُرزق.

إن بشاعة جريمة قتل خاشقجي هي بمثابة رسالة لكل صحافي أن الديمقراطية التي ينادي بها في العالم العربي ستتحوّل منشارًا لتقطيع أوصال جسده. لذا، فإن الأمل ببناء جسور بين الصحافة والأنظمة الحالية بات أبعد من أي وقت مضى بعدما استعيض عنه ببناء مقابر جماعية، ما يؤكد صدق قول الشاعر العربي: "لكل داءٍ دواء يستطبّ به، إلا الحماقة أعيت من يداويها".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.