شعار قسم مدونات

الشركس والفلسطينيون.. عندما تحمل وطنك على كاهلك

blogs فلسطين

كيف يمكن لموسيقى الشركس المرحة والرشيقة رشاقة خطوات الراقصين على نغماتها أن تتجاور مع سأم الصمت على جرح الغياب؟! كيف يمكن لفرح الموسيقى وجذلها أن يصدحا تحت الوطأة الثقيلة لخطو جنود الذاكرة الذين يقتربون كل ليلة لاجتياحك وتمزيقك وإغراقك حد الصمت؟! ذلك الامتزاج الذي يبدو محالا أو حتى عدميا، يعيشه من يشاهد فيلم "نهاوند" لصانعة الأفلام الشابة أميمة نخلة، ويأتي عنوان الفيلم مفتاحا لفهم هذا الامتزاج؛ فالنهاوند مقام موسيقي يجمع بين الحزن والفرح. تلخّص أميمة فكرة فيلمها "نهاوند" فتقول: "موسيقى الهجرتين القسريتين الشركسية والفلسطينية تُعزف وتُروى في عمّان، وطن جديد للمهجرين بينما تلح عليهم بلاد القوقاز وفلسطين".

إذًا؛ فهي تتحدث عن وطن احتضن اللاجئين ومنحهم فرصة استئناف الحياة، بل إن المجتهدين منهم سجلوا فيه نجاحات باهرة، ففقدان الوطن لا يعني فقدان الحياة لكنها تستمر مثقلة بالذكريات المؤلمة ليس للمنزل الأول فحسب، بل لمن كانوا فيه وقُتلوا فتحوّلوا إلى صور، أو من خرجوا منه ويُقتلون في كل ليلة لأن وطنهم تحوّل إلى ذاكرة. تقول مخرجة الفيلم: "أوطاننا لا تغادرنا. في الهجرة، تتجلى في داخلنا.. نحملها معنا أينما حللنا وتلازمنا حدّ التعب. كم هو مرهق أن تحمل وطنًا على كتفك حيثما أخذتك الدروب".

وكما وظّفت "نخلة" عنوان الفيلم ليدل على أن المهجّر قسرًا من وطنه تشقى روحه ولو عاش مباهج الحياة بعدها، فإنها وظّفت تكرارا مقصودا لتجاور الموسيقى المشرقة بالفرح جنبا إلى جنب مع مشاهد طويلة من الصمت المطبق والانتظار الرتيب الذي يحاكي الشوق الثقيل للعودة إلى الوطن رغم تمادي السنين التي طوت خلفها الأجيال الأولى من المهاجرين.

مخرجة العمل لم تلجأ لفصل فجّ في السرد بين قضيتي الشعبين الشركسي والفلسطيني برغم تباعد المسافة بين الوطنين، وبرغم اختلاف التفاصيل وزمن النكبتين

إن الإنسان إذا يئس من شيْءٍ استغنى عنه، لكن زوج "أميرة" والذي يمثّل الجيل الثاني من اللاجئين الفلسطينيين يرفض بشدة هذا الغنى، متشبثا بغيم الوطن ويقول: بأنه ليس أقل من الطيور والأنهار التي تتذكر أوطانها، لقد انحبس عشية النكبة هناك ويرفض تصديق أن العدو سحب الوطن من تحت أهله وهم نيام، كيف حدث هذا وزوج "أميرة" لم يغفُ في ليلة الرحيل؟! وكيف حدث هذا والقهوة التي أعدتها أمه لم تُشرب بعد؟! وكيف حدث هذا ولم يودع "أميرة"؟! إنه هذيان يشبه هذيان جدة أميمة التي اجتثها اليهود من "بيت نبالا"، فلجأت إلى عمّان لكنها استمرت في هجرات لا تنتهي وبقيت روحها شبحًا في قريتها المدمرة وظلّت إلى موتها تهذي على بوابات "دار عساف" و"دار خالد" و"دار نخلة".

أحسنت أميمة عندما استغنت في فيلمها عن صور القوقاز وفلسطين أو صور معاناة اللاجئين منهما، فهي بهذا اضطرت المشاهدين أن يروا تلك الأوطان في وجوه الغادين والرائحين والباعة والمتسوقين، وأن يسمعوا موسيقى تلك الأوطان في صوت المهاجرين الداخلي والذي كان يغطي على صخب "وسط البلد". وأظن أنها قصدت أن تكون أغلب مشاهد الفيلم الصامتة في هذا المكان الذي يمثل القلب الاقتصادي لعمّان وفيه التجار الشراكس والفلسطينيون والسوريون، كما أن وسط البلد استقبل موجات اللاجئين المتتالية، فنجد فيه منطقة "الشابسوغ" وهو اسم عائلة شركسية نزلت هناك بين عامي 1888 و1902، وعلى أطراف وسط البلد لا يزال اسم منطقة "المهاجرين" شاهدا على اللاجئين من الشركس.

أعجبني أن مخرجة العمل لم تلجأ لفصل فجّ في السرد بين قضيتي الشعبين الشركسي والفلسطيني برغم تباعد المسافة بين الوطنين، وبرغم اختلاف التفاصيل وزمن النكبتين، إن هذا المزج يشعر به كل من يشاهد الفيلم، لكن يصعب عليّ كمشاهد عادي أن أعزز كلامي بشواهد، ولا يمنعني هذا من محاولة تلمسّها؛ ففي مشهد تأسيسي للفيلم، تظهر لقطة مقربة جدا لوجه فتاة جمعت شبهًا بين القوقاز والكنعانيين، لقد كان المشهد طويلا حدّ الملل ويعاد في آخر الفيلم فضلا عن ظهور ذات الفتاة وسط الفيلم في مشهد مختلف! والسؤال: هل ما وصلتُ إليه هو ما أرادته المخرجة؟

الجرعة الشعرية في الفيلم كانت طاغية، وفي رأيي أن الجرعة الشعرية المناسبة هي التي تذوب في الفيلم وتساعد في فك شيفرة مشاهده، لا أن يكون مشبّعا بها، فالفيلم لا سيما الوثائقي ليس المكان المثالي لإلقاء الشعر

شاهد آخر على دمج المخرجة الموفق بين قضيتي الشعبين الشركسي والفلسطيني، فقد وحدّت بين "أميرة" الفلسطينية و"أميرة" الشركسية، فزوج أميرة الفلسطيني عندما رآها مقتولة غداة النكبة جاء المشهد التالي لآلة عزف "بيانو" مغلقة وأشبه بتابوت أسود، والمشهد الذي يليه كان لأميرة الشركسية بثوب زفاف أبيض فهل كان كفنا؟ وهل كان من المقصود أن العروس التي تمثل أميرة الشركسية لم يأت فارسها أبدا وكأن المهاجر يعيش حياته نعم، لكنه لا يذوق الفرح أبدا؟

وهل كان ظهور بعض الشخصيات في الفيلم على هامش كادر التصوير له دلالة أن ما يحيط باللاجئ مكان لجوئه هو تفاصيل جانبية وهوامش عابرة في حياته التي غدت ذاكرة ثكلى بغيابه القسري عن الوطن؟ وهل تغييب الخلفية الصوتية لصخب الأسواق وتسيّد الصمت المطبق له دلالة بأن صوتا آخر داخل كل مهاجر يصمّ أذنيه عما حوله من حياة النهار المفعمة فلا يسمع إلا صوت الوطن السليب يدق فؤاده فيدكّه دكا ويحيله شظايا؟ وهل الظلام الصامت هو دالةٌ على هواجس السهاد التي تغزو المهاجر ليلا فتحيل فِراشه إلى شوك، وتجتاح روحه اجتياح الحمى للجسد؟ وهل الصوت الضعيف والمتهدج لمن تلقي الشعر وتحاور زوج "أميرة" الفلسطينية مقصود ليعبر بالمبنى كما المعنى عن انكسار وحزن المهاجر عن وطنه؟ كل تلك الأسئلة أوجهها لمخرجة العمل أميمة نخلة، وأسعد بأن تشاركنا أجوبتها على هذا المنبر؟

ومن الأسئلة إلى ملاحظة ونصيحة من مشاهد عادي: أما الملاحظة فهي أن الجرعة الشعرية في الفيلم كانت طاغية، وفي رأيي أن الجرعة الشعرية المناسبة هي التي تذوب في الفيلم وتساعد في فك شيفرة مشاهده، لا أن يكون مشبّعا بها، فالفيلم لا سيما الوثائقي ليس المكان المثالي لإلقاء الشعر. وأما نصيحتي لهذه المخرجة المبدعة فهي أن تقترب أكثر في أعمالها من المشاهد العادي، فلا توغل في الغريب والرمزية الصارخة والتجريد الفائق الذي يصرف الجمهور العريض، وأن تدرك بأن العمل الإبداعي إذا لم تشاهده إلا نخبة ضيقة فهو كمن يصرخ وحيدا في البرية. وأخيرا فإنه وبعد مشاهدتي لهذا الفيلم ولأعمال مرئية أخرى وكتابات شعرية ونقدية لأميمة نخلة، فإنها بلا شك مخرجة مبدعة وصانعة أفلام مميزة لم تجد الاهتمام الذي تستحقه من الجهات التي ترعى المبدعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.