شعار قسم مدونات

كُن نبيلاً سِرّاً و علانِية

مدونات - مريضة سكري

كُنت قد قرأتُ كثيراً عن سكري الأطفال خاصةً، لكنّي لم أرَ حقاً مريضاً به، كان ذلك يومي الأول في عيادة الأطفال يوم رأيتُ طفلةً في الحادية عشرة من عمرها قد شٌخّصت بمرض السكري – النوع الأول – أو ما يُعرف بسكري الأطفال. بَدت تعليمات الطبيب واضحة حول المأكولات الواجب التقليل منها وكيفية تنسيق جرعات الأنسولين بما يتناسب مع كمية الطعام المُتناولة في كل وجبة. بقيتْ صامتة، لو كنتُ مكانها لبكيت، لكنها لم تذرف دمعةً واحدة! كانت تعابير وجهها صفراء مخيفة كأنها تحتضر للتو.

وددتُ لو أخبرها أن المرض ابتلاء وأنه رزق كما الصحة يهبه الله عزّ وجلّ لعباده كما يهبهم العقل، أردتُ لو أخبرها كم سيكون ثوابها عظيماً، لو صبرت وأن الملائكة تكتب لها حسنات بكل (آه) تؤلمها. وأن الجنة فيها كلّ شيء تحلم به، لكن لا ليس هذا ما تريد! تُريدُ فقط أن يضمها أحدهم إلى صدره كأنّ لا أحداً في العالم غيرها ويخبرها أن هذا الأمر بسيط وأن ما عليها فقط هو الالتزام بجرعات الدواء حسب الوصفة الطبية، وأنها فتاة جميلة جداً للحد الذي ميّزها الله فيه عن غيرها وجمالها لن يقلّ أبداً وأنها لن تختلف عن صديقاتها وستبقى تأكل الحلوى اللذيذة والبوظة في أي وقت تشاء.

ما نحتاجه حقاً عند كل ألم وحزن هو الإحسان وفقط الإحسان، أن تعلمني كيف أتخطاه وكيف أجد سبيلاً للخروج، خير وأعظم عند الله من أن تتلو عليّ كل أحاديث المواساة وعبارات التشجيع التي تستفز ذاك الثبات.

تود أن يطمئنها أحدهم و يخبرها أنها ستكبر وتبقى كما هي بذات الذكاء والجاذبية دون أن تقلّ أنوثتها وأنها ستصبح حبيبةً ثم زوجة ثم أمّاً يوماً ما. لكن لم يخبرها أحد بشيء كانت عبارة "يلا الي بعدو فش وقت للعيادة" تقطع كل أمل باستعادة الطفلة. أظنّها فقدت حتى ملامح الحياة. بعد أيام علمت أنها لا تلتزم بجرعات الدواء مما أدى لدخولها في غيبوبة مرات عدة. ربما كان طيف جدّها الذي أودى السكري بكلتا قدميه يطارد أحلامها الجميلة، كانت بحاجة أن يخبرها أحدهم أنها لن تلقى ذات الحتف. كم حُزناً يمرّ علينا وكم ضيق يعتصرنا لا نبوح به لأحد فقط كي لا نسمع كلمات الشفقة والأسطوانة المعتادة (بيعين الله، بدنا نصبر، هاد حال الدنيا، الحياة صعبة).

بالمناسبة، عندما يحلّ البلاء وتنزل المصيبة يقرنها الله برحمة الصبر من عنده، فَحتى هذه السلوى كلها وهذه العبارات محفوظة وموجودة في عقولنا وقلوبنا، ترددها أرواحنا ايماناً ويقيناً فطرة من عند الله، لولا ذلك ما وجدت أهل البلاء بهذا الثبات وتلك السكينة. ما نحتاجه حقاً عند كل ألم وحزن هو الإحسان وفقط الإحسان، أن تعلمني كيف أتخطاه وكيف أجد سبيلاً للخروج، خير وأعظم عند الله من أن تتلو عليّ كل أحاديث المواساة وعبارات التشجيع التي تستفز ذاك الثبات.

علمني كيف أواجه مصيبتي وكيف أردّ دَينِي، كيف أسترد عافيتي أو حتى أحافظ عليها، كيف أتمكن من النجاح في مادتي الجامعية الأخيرة التي حالت بيني وبين التخرج. كيف أنهي سوء الفهم مع والدي وكيف أتعامل مع طفلي، كيف أكون أماً أفضل، كيف أكون ناجحاً، كيف أكون أفضل بك ومعك! بعض الهموم يكفيك فيها كتفاً بجانبك يخبرك "أنا هُنا لا تقلق". علمني كيف أنهض من عثرتي وأكمل المسير كأنّ شيئاً لم يكن، علمني كيف لا أتخلى عن نفسي، كيف أعود إن ضللت الطريق، لا تعلمني كيف أمتطي الخيل كَفارسٍ، بل علمني كيف لا أقع عنه كَنبيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.