شعار قسم مدونات

أرجوكُم.. كفوا عن مشاركتنا تفاهاتِكم اليومية!

blogs موبيل

قصة حب لا مثيل لها، زوجان متفاهمان جدا، يُصرحان بحبهما على الفيسبوك حيناً، وينشران صورهما السعيدة أحياناً، يمكن لأي واحد أن يلاحظ مدى اهتمامهما ببعضهما وهما يتبادلان كلمات الحب والغزل في التعليقات، هدايا وحفلات ومفاجآت وسفريات كثيرة، كلها موثقة وظاهرة للعموم. ثم ماذا؟ انفصال بعد عامين من الزواج! ليفاجأ الجميع أنهما كانا خلال كل هذه المدة يعيشان في جو من المشاجرات والمشاحنات التي لا تنتهي! وأن كل ما كانوا يدعونه على وسائل التواصل مجرد تمثيل واستعراض لسعادة لا تبث لحياتهما بصلة!

فتاة جميلة في ريعان شبابها، تنشر صوراً وڤيديوهات كثيرةً لها؛ عن علاقتها الجيدة مع إخوتها، عن والديها الرائعين، وعن صديقاتها اللواتي تقضي معهن دائماً أوقاتاً ممتعة في حفلات وخرجات باستمرار، ترتاد أفخم المطاعم، ترتدي ملابس أنيقة، وتبدو في كل صورها بوجه نظر لا تشوبه شائبة. لكنك إن ألقيت نظرة على حياتها في الواقع، ستتفاجأ من كمية المشاكل التي تعيشها، وعن الاضطرابات في علاقاتها مع من حولها، وعن وجهها الذي يبدو مختلفاً عن صورها المنشورة.

حالات وأخرى تدفعنا للتساؤل عن حقيقة الانفصام الذي أصبحنا نعيشه بين الواقع والافتراض، وحولَ استعراض الحياة الشخصية وترويج الأوهام عنها في سبيل صناعة صورة مثالية عن ذواتنا لنقدمها للآخرين؛ فـ أصبح البعض يشاركون كل تفاصيلِ ما يخصهم بشكل يومي، وبطريقة تُظهر الأجمل والإيجابي فقط، مُتغاضية عن كل ما هو قبيح وسلبي.

السعيدَ المستمتع بحياته حقاً، لا يحتاج أن ينشرها للعموم، بل يكتفي بعيشها في الواقع مستغلاً كل لحظة فيها.. مقتنعا أن حلاوتها في سرها

كأن يصوروا مثلاً زاوية جميلة من مقهىً يبدو فخماً ويشيروا لأنهم متواجدون هناك، أو أن يصوروا موائد ممتلئة في أحد المطاعم التي توحي للرائي أنهم يذهبون عادة لأماكن فخمة وفارهة، كما ينشرون صوراً لمكان عملهم وهو مرتب بشكل جذاب، أو حتى منزلهم الذي يظهر فخماً وأنيقاً، علاوة على فيديوهاتهم الشخصية وهم يظهرون في قمة استمتاعهم على شاطئ البحر أو أعلى الجبل، وصور وفيديوهات كثيرة وهم يتجولون في كل مكان يذهبون أو يسافرون إليه.

وكل هذا طبعاً، بعد إخضاع معظم هذه الصور لتعديلات من أجل إضافة التأثيرات التي تجعل الألوان جذابةً والعيوبَ منعدمةً والواقعَ مزيفاً! قد يبدو هذا الحرصُ عادياً ما دامت النفس تميل لإظهار ذاتها في أبهى مظهر لمن حولها، لكن كيف يتكبد هؤلاء فوق عنائهم عناء التصنع والافتعال، فيصنعون الحياة التي يتمنون عيشها ويعرضونها على وسائل التواصل؟!

هذا الإدمان على نشر نشاطاتنا واستعراض سعادتنا، لا بد ان يخلق نوعاً من عدم الرضا عن الذات وعدم تقديرها، وأن يؤدي لغياب الثقة بالنفس في الحياة الواقعية نتيجة الاختلاف الكبير بين صورنا الشخصية الجميلة التي ننشرها، والتي لا تعكس غالباً ما نبدو عليه في الواقع، وبسبب الهُوَّة التي بين حياتنا العادية وتلك المثالية التي اصطنعناها وأقنعنا بها غيرَنا، هذا إلى جانب انه يجعلنا نغرق في دوامة حب الظهور وجذب الأنظار ووهم الشهرة، فيصبح كل ما نقوم به هو من أجل إظهاره للآخر وليس من أجلنا.. فنحرص على توثيق اللحظة ونشرها دون عيشها، لتصبح سعادتُنا مقرونةً بإظهار السعادة التي لا نعيشها حقاً للآخرين.

والحقيقة أن السعيدَ المستمتع بحياته حقاً، لا يحتاج أن ينشرها للعموم، بل يكتفي بعيشها في الواقع مستغلاً كل لحظة فيها.. مقتنعا أن حلاوتها في سرها. صحيح أنه من الجيد التَّواصُل والانفتاح على العالم الافتراضي، ولا ضرر من مشاركة شيء نافع مفيد، لكن الأجدرَ بِنا ألا نتورط في دوامة مُشاركة حياتنا الشخصية لحد الإدمان الذي يقتل مساحة الخصوصية فيها، ويجعلها سلعةً نُسوِّق بها أنفسَنا للحصول على "شُهرة" مزيفة.

أرجوكم! كفوا عن التعامل مع وسائل التواصل كأنها غُرف بيوتكم، ولا تلقوا بخصوصياتكم على قارعة فيسبوك وانستغرام، حاولوا عيش لحظاتكم الجميلة بكل ما تحمله من سعادة دون التفكير في نشرها
أرجوكم! كفوا عن التعامل مع وسائل التواصل كأنها غُرف بيوتكم، ولا تلقوا بخصوصياتكم على قارعة فيسبوك وانستغرام، حاولوا عيش لحظاتكم الجميلة بكل ما تحمله من سعادة دون التفكير في نشرها
 

فلا داعيَ من أن تصور لنا تفاصيل حياتكَ اليومية فتشاركَنا إفطارَك وغذاءَك وعشاءَك وكوب قهوتِك، ولا داعيَ أن تصور نفسكَ خارجاً من بيتكَ وتصور لنا الشوارع والأزقة بعد أن تشغل الموسيقى من داخل سيارتك، ولا داعي أيضاً من تصوير رجليك وهما تمشيان على الرمال وبجانب الشاطئ أو وهما منغمستان في بركة سباحة!

ماذا سيفيدُني أنا إن علمتُ أنك التقيت بصديقك في ذاك المقهى المتواجد في الشارع الفلاني على الساعة الخامسةِ وعشْرِ دقائقَ مساءً؟ ماذا ستستفيد أنتَ إن علم الناس عن سفرياتِك؟ ماذا ستضيف إلى هذا العالم إن أخبرتَهُ عن قصة حبِّك المثالية ومدى تفاهمك مع شريك حياتك؟ بالله عليكَ ما الذي ستجنيه من استعراض سعادَتكَ وأغراضِك الشخصية وبيتِكَ المرتب!

أرجوكم! كفوا عن التعامل مع وسائل التواصل كأنها غُرف بيوتكم، ولا تلقوا بخصوصياتكم على قارعة فيسبوك وانستغرام، حاولوا عيش لحظاتكم الجميلة بكل ما تحمله من سعادة دون التفكير في نشرها وفي ماذا سيقوله الآخرون عنها، استمتعوا بحياتكم الشخصية ولا تجعلوها ملكاً للعموم.. أرجوكم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.