شعار قسم مدونات

لماذا يتلذذ الإنسان بسحق الآخرين؟

blogs غضب

يعتقد الإنسان دوماً أن حريته تكمن في فعل ما يريد، وأنه ليس لأحد الحق في الاعتراض عليه في أمره مهما يكن، ويعتبر تصرف الأخير حماقة يجب محاسبته عليها، وهو ما يثير في داخله مشاعر سلبية مؤداها أنّ هذا الشخص عدوٌّ يجب التّخلص منه وسحقه بأي طريقة ممكنة. بعودتنا إلى التاريخ نجد الكثير من النماذج الواضحة على وجود هذه العقدة. فالحروب جوهرها الأساس هو سحق العدو والتّخلص منه وجعله يتذوق مرارة الذّل، وهو ما يكسب الطرف الآخر شعوراً بلذة الفوز، ولذة الفوز في الأساس هي ناتجة عن الإحساس بالرضى عن النفس أو العرق أو القبيلة أو الجماعة التّي استطاع من خلالها أن يحطّم الطرف الآخر؛ وكلّما كان شعور المسحوق بالألم أعمق، كانت اللذة للساحق أكبر.

من أين تأصلت هذه العقدة يا ترى؟ هل هي طبيعة في الإنسان تولد معه كغريزة للدفاع، أم هي شيء يكتسبه خلال حياته واحتكاكه بالواقع والنّاس والظروف الصعبة وغيرها؟ في الحقيقة يمكن أن نعتبر الاحتمال الأول والثاني على قدر من الصحة كلتاهما؛ فالإنسان يُخلق ومعه غريزة البقاء التي تلد بدورها غريزة الدفاع، وما طبيعة الدفاع إلاّ شكل من أشكال السحق، ففي الأخير الهدف من الدفاع هو التخلص من الخطر الذي يحدق بشخص الإنسان أو شيء يخصه.

إذاً على هذا الأساس يمكن القول بأنه قام الدليل ولو لم يكن قاطعا على أصلية هذه العقدة في البشر وكونها من الغرائز الضرورية للبقاء. أما ما ادعيناه من أنّ هذه العقدة مكتسبة فهو أيضاً صحيح من جهة؛ وللزمان والمكان والظروف المختلفة دور في تأجيج هذه العقدة أو دفنها بحيث تختفي من الإنسان ظاهراً. الحرب والفتنة وعدم الاستقرار.. كل هذه الأشياء هي أرض خصبة لتتكاثر وتلد وتكبر هذه العقدة؛ وهي لا تستقر على حال إلاّ نادراً؛ الحرب مثلا. يكون لدى إنسان رغبة قوية في الانتقام من جار له يؤذيه، فهي رغبةٌ راسخةٌ ما دامت لم تجد لها مكاناً آخر مناسباً؛ ولنفترض أنّ الحرب قامت بين قرية وقرية، فسرعان ما ستنتقل هذه العقدة من جار الرجل إلى القرية المعادية ويصير هو وجاره متحدان متعاونان متحابان متناسيان كل الضغائن التي كانت بينهما.

يظلُّ الإنسان لغزاً محيراً، لا يمكن التنبؤ بما في داخله من أشياء وعقد، فالنّفس البشرية بحر لا نهاية له، ولا يمكن لأي غواص كيفما كان أن يطلع على قعره وما يحتوي عليه بالكلية

وفي حين تكون هذه الأشياء مسببة في تعاظم وتفاقم هذه العقدة، يكون العكس حين يكون الأمان والهدنة قائمين، فتخبو وتختفي هذه الأخيرة بحيث يمكن ألاّ تظهر على أرض الواقع. ولكن على الرغم من ذلك فهي لا تنفك قائمة في دواخل الإنسان؛ فهي لا تنمحي بالكلية أبداً. فالإنسان أبدا لا يخلو من مثل هاته النقائص، فهي طبيعة فيه لا تنفك عنه؛ فحينما يخبرنا شخص ما بأنّه تجرّد من مثل هذه الأمور كالحسد والغيرة والنفاق وحب الانتقام وما إلى ذلك، فهو إنسان غطى الحقيقة بالتفاهة، كالذي يغطي الشمس بالغربال!

نعتبر الشخص الذي لا يرد السوء بسوء مثله ولا يؤذي من يؤذيه، بالشخص المسامح المسالم، فهذا في الظاهر صحيح، لكن هل يمكننا القول بالمثل عن دواخله؟ لا بالتأكيد، فهو استطاع أن يكبت تلك الرغبة في داخله لسبب من الأسباب ليس هذا مكان ذكرها، لكنه لم ولن يستطيع تفتيتها من أعماقه مهما فعل، فما دام الإنسان يعيش مع غيره من الناس إلا وهذه الأشياء موجودة لا تفارقه. أما الشخص الذي يرد الصاع صاعين ويضاعف الرد ردين، فهو شخص عكس الآخر، فهو لم يستطع مقاومة الرغبة في السحق والاستمتاع باللذة المصاحبة له.

وهذه العقدة لها أشكال طبعاً، وهي في أصلها ليست بالخطيرة، لكن المصيبة حين تمتزج بغيرها من العقد: فمثلا عقدة النقص، فهذه الأخيرة إذا امتزجت بعقدة السحق تَكَوَّن لدينا شيء خطير للغاية؛ فهذا الإنسان الذي تلبسَ بهذا المزيج لا يرجى منه خير ولا سيما إذا أتيحت له الفرصة لتفريغ هذا السمّ القاتل. قال لي صديق ذات يوم لما كنا لا نزال في الجامع نقرأ القرآن بعدما ضربنا الفقيه ضرباً مبرحاً: أنّه سينتقم لنفسه بضرب الأولاد الآخرين حينما يكبر ويصير هو بنفسه فقيها. وهنا يظهر جلياً أنّه أجّل رغبته لأنّه لم يستطع تنفيذها على الشخص المذكور لأنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلا. وفي الأخير يظلُّ الإنسان لغزاً محيراً، لا يمكن التنبؤ بما في داخله من أشياء وعقد، فالنّفس البشرية بحر لا نهاية له، ولا يمكن لأي غواص كيفما كان أن يطلع على قعره وما يحتوي عليه بالكلية، فهو لم ولن يعلم إلا القليل من هذا الكثير رغم ما توصل أو سيتوصل إليه العلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.