شعار قسم مدونات

الحب في زمن الرأسمالية.. كيف تفككت علاقتنا العاطفية؟

blogs الحب

الحب هو حصيلة الموارد عاطفية ونتاج لذلك الوازع الأخلاقي الكامن في أعماقنا، ولقد ظل منذ فجر البشرية ذلك السند الذي يحتمي به الإنسان ويستند إليه للحفاظ على اتزانه النفسي ويستثمر فيه جهده الدؤوب لإشباع رغباته العاطفية وحاجته النفسية إلى الأمان والراحة في الشدة والتعزية في المحن والمصائب ونيل التهاني في المسرات والأفراح، فهو مجال لا يعترف بمنطق المصلحة الضيقة أو الفردانية بل إن الغاية الأسمى والمقصد النبيل هي تلك اللذة المجردة الدائمة التي يشعر بها الانسان أنى وجد الروابط والصلات الدائمة واستطاعت هذه القيم أن تتجذر مع تعقد العلاقات الاجتماعية خالقة الأساس الذي بنيت عليه أهم المؤسسات الاجتماعية وهي الأسرة كما كانت ركيزة لاستقرار المجتمع وضبط العلاقات بين أفراده على أساس الترابط والتكامل.

ولقد صمدت سمات هذه العلاقات والروابط العاطفية في جميع العصور وبنظرة سريعة على التاريخ سنجد أن لكل الشعوب رصيد هائل من سرديات الحب والعاطفة وحظ من ثقافتها، تتجلى في الأشعار والأغاني الشعبية والملاحم وقصص العشاق التي مثلت على دوام مخزون رمزي بقي عصي على التدجين، بل كان عاملا ساهم في الحد من النزوع للعدوانية والأنانية وحاجزا منع تفكك المجتمعات، وإذا كانت هذه هي القاعدة دوما فالحاصل أننا نشهد بروز واقع جديد مغايرة لما هو مألوف ومعتاد يتسم بالفوضى العاطفية وبطغيان القيم استهلاكية وتنامي الميل لتفضيل العلاقات العابرة عوض عن الاستقرار والديمومة والعفوية، يتبلور سريعا تحت تأثير تطور الرأسمالية وإفرازاتها التكنولوجية والفكرية.

حملت الرأسمالية منذ ظهورها في أوروبا تحولات جذرية على مستوى نمط الإنتاج ووسائله كما بشرت بصيغة جديدة من التصورات الفكرية الحديثة مما سمح بإحداث تغيير عميق مس تركيبة المجتمعات وكيمياءها الداخلية، ففي السابق كان المجتمع كيان مبني في حركاته على نسيج من الجماعات الصغيرة قوامها التضامن والتكامل والإعلاء من روابط العاطفة والحب والمودة بين مكوناته، خاصة داخل الأسرة بين الزوجين وبينهما وبين أبنائهم كالتزام مباشر للأعراف ولتعاليم الدين ولقد تزامن نمو المجتمعات الصناعية ثورة فكرية عقلانية جعلت الإنسان مقياس لكل شيء ومقدسة الإرادة البشرية وملغية الاعتبار للوازع الديني وللحاجة لوجود الرب ما دام الإنسان قادرا على التحكم في مصيره ووجوده وجني ثمار جهوده في الدنيا.

لأساس الفكري الذي قامت عليه الرأسمالية المتمركز على الدعائم الثلاث الفرد والحرية والربح (المصلحة الشخصية) كان لها وقع عميق في بنية المجتمع ووعي أفراده

وهذه التصورات المادية التي بشرت بها الحداثة كعقيدة للمجتمعات الرأسمالية خلقت في النهاية عبر سيرورة طويلة انسان جديد على مقياسها بنمط جديد في عقلياتها وسلوكاته وبنظرة نفعية وانتهازية للحياة، تستند إلى مرجعية الذات والنرجسية المفرطة والسعي لضمان المصالح الشخصية دون الاكتراث للموارد الأخلاقية وللروابط الإنسانية المبنية على التعاون والتكامل والتضامن والتي شكلت أساس الوجود البشري منذ القدم، كما دعت لعدم الاعتراف بالعلاقات المبنية على المودة والحب وتهميشها وامتدت هذه النتائج لتشمل بلدان وصلها طائف من الحداثة بنمطها المشوه بما فيها العالم العربي وهو ما يلاحظ في نمط السلوكات الفردية التي باتت تتخلل تفاصيل الحياة اليومية.

فالأساس الفكري الذي قامت عليه الرأسمالية المتمركز على الدعائم الثلاث الفرد والحرية والربح (المصلحة الشخصية) كان لها وقع عميق في بنية المجتمع ووعي أفراده، وكان لها بطريقة مباشرة دور خطير في تكريس أزمة العلاقات العاطفية، ويمكن أن نتلمس أثر هذه المستويات في شيوع العلاقات العابرة التي كرستها ثورة الانترنت وانتشار المواعدة عبر موقع التواصل الاجتماعي حيث لم يعد تكوين العلاقات العاطفية بين الجنسين يهدف في النهاية إلى الزواج مثلما كان خلال العقود الماضية ما دامت البدائل موجودة ومتاحة لإيجاد الرفيق المثالي.

 

ويضاف لها الثورة الجنسية والحريات الفردية التي نجحت في تحويل العاطفة والجنس إلى سلع رخيصة لها سوق وزبائن ومن اليسير الحصول عليها وتقوم عليها صناعات كاملة لها دورة ربح سريع تتجسد في صناعة المحتوى الجنسي على الانترنت وغيرها، فمحور العلاقات بين الجنسين صار المتعة المؤقتة العابرة التي يمكن إنهاؤها في أي لحظة وإلغاؤها من العالم الحقيقي أو من العالم الافتراضي كما بدأت من الوهلة الاولى، ويعزز هذه السلوكات آلات التسويق الرأسمالي حيث الشعار الأساسي دعه يتمتع دعه يستهلك، وهو ما نراه في الصورة النمطية التي تروجها صناعة السينما وبرامج الواقع حيث نجاح الشخصي مرتبط بتعدد العلاقات الجنسية والعاطفية كما تصور أفلام هوليود في شخصية دون جوان زير النساء.

وهكذا يتضح حجم الانحراف الخطير في المقاصد فالهدف من وراء العلاقات العاطفية العابرة لدى الذكور هو تعزيز الاستقلالية والتخلص من كل الأعباء والقيود المرتبطة بتكاليف الزواج، ويرسخ هذا الميل صعوبة الأوضاع المعيشية ومنظومة التقاليد وعادات الزواج ثم غياب الاستقرار الوظيفي وانتشار العمل المؤقت فلا يمكن في ظل هذه الأوضاع الجنوح للزواج وتكوين أسرة، ومتى ما تمت المفاضلة بين الارتباط الدائم أو العلاقات القصيرة المدى يرجح الخيار الأخير لإشباع الرغبة الجنسية بتنويع الشركاء، وعليه يتم اختزال العلاقة مع الجنس الآخر في العلاقة الجسدية دون اعتبار للمشاعر والاحاسيس المجردة ولقيمه كالتضامن والتضحية والرعاية المتبادلة وهذا ما يوفق النظرة الاستهلاكية للأشياء.

أما بالنسبة للإناث فلقد صار معظمهن أكثر ميلا للنرجسية وللتفوق على القرينات في المظهر والشكل ونجد أن هذا النزوع تشجعه دعاية شركات التجميل والمكياج، فالأنثى الناجحة هي المحبوبة والأكثر جمالا وإغراء لأكبر عدد ممكن من الجنس الآخر ولا يهم تنويع المغامرات الجنسية والعاطفية، ففي النهاية هي وسيلة لتحقيق المصلحة الشخصية، فرضها الايقاع السريع لأسلوب الحياة العصرية التي تتطلب إظهار التميز الشخصي بدلا عن فكرة الارتباط والزواج وإنجاب الاطفال وتحقيق النجاحات الشخصية والعملية عبر تعلم المهارات والكفاءات الكفيلة بالاندماج في سوق عمل يفرض منافسة شديدة على فرص عمل تتقلص بوثيرة سريعة ،و بالتالي كلما تقلصت الفجوة بين الجنسين وتقاربت أدوارهما تعمق التباعد بينهما وأفسح المجال لخلق الصراعات.

نجد أن أزمة الروابط العاطفية وانحصار الاهتمام بالزواج والحب والمودة هي نتاج مباشر لمنطق الربح والفائدة أفضت إليه الرأسمالية ومنظومتها الفكرية الحداثية
نجد أن أزمة الروابط العاطفية وانحصار الاهتمام بالزواج والحب والمودة هي نتاج مباشر لمنطق الربح والفائدة أفضت إليه الرأسمالية ومنظومتها الفكرية الحداثية

وحتى بالنسبة للمرتبطين فلقد أرغمت ظروف العمل تحت ظلال النظام الرأسمالي على قتل الحب والعاطفة داخل الأسرة، فمع ساعات العمل الطويلة وضغوط الحياة اليومية وعمل الزوجين معا لتوفير دخل قادر على تلبية الحاجات الأساسية ثم التنقل المستمر نحو مقر العمل والارهاق الناتج عنها، ترتب انعكاسات خطيرة اذ يستنفد الوقت والطاقة اللازمة للتعبير عن المودة وممارسة الحب بشكليه العاطفي والجسدي، فتختزل الحياة الزوجية في ذلك الروتين اللانهائي من الواجبات المنزلية المملة وتنحصر مشاعر الحب والمودة بين زوجين في علاقة جسدية جافة.

 

ولعل الخطورة في ذلك أن هذا ليس سلوكا فرديا طوعيا يمكن تقويمه عن طريق الوعظ أو الارشاد النفسي بل هو نتاج منظومة فرضت قسرا تلغي انسانية الفرد والمجتمع، وعلاوة على ذلك لا يخفى على أحد أنها السبب الرئيسية في الخلافات والصراعات الزوجية التي تؤول في غالب الأحيان إلى الشقاق والطلاق وتبادل الاتهامات بين الطرفين في فشل العلاقة، متناسين أن الملام الحقيقي هي شروط العمل في ظل الرأسمالية ثم ثورة التكنولوجيا التي تتجه لاجتثاث أحد أهم مقومات المجتمعات البشرية وهي مشاعر العاطفة والحب.

وهكذا نجد أن أزمة الروابط العاطفية وانحصار الاهتمام بالزواج والحب والمودة هي نتاج مباشر لمنطق الربح والفائدة أفضت إليه الرأسمالية ومنظومتها الفكرية الحداثية فبحسب زبجمونت باونت في كتابه الماتع الحب السائل يرجع ذلك لحسابات المجتمع الاستهلاكي وتركيزها على المؤقت والمتعة القصيرة المدى فتولد حاجات دائمة للاستهلاك بشكل مستمر، وتحول كل القديم لشيء مستهجن ينبغي التخلص منه بما فيها المشاعر والأجساد والصلات وهو ما يقود لخلق مناخ يتسم بغياب الثقة وشيوع التعاسة والكآبة الفردية، وحينما ينهار الفرد فإنه من الطبيعي أن يتعرض المجتمع للتفكك والانحلال وربما موته في نهاية المطاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.