شعار قسم مدونات

المثقف المسلم.. من حارث وهمام إلى قهوة ساحنة!

blogs-يوميات قارئ

يُلاحظ أي قارئ مطلع على النتاج الأدبي العربي الحديث أو متتبع لصفحات الطبقة المثقفة على الإنترنت أو حتى من خلال الحديث معهم، أن الغالبية العظمى منهم لا يكادون ينفكون من تكرار المفردات التالية: (اللاشيء، العدم، اللاجدوى) وما يرادفها أو يشاكلها بالمعنى البعيد أو القريب والأمر الآخر هو كفرهم بكل خير في هذه الحياة ويأسهم من روح الله وهذا أمر طبيعي ناتج عن التأثر بالحداثة الغربية.

لكن الأمر الغير طبيعي والمرفوض تماماً، هو أن تتلبس روح الحداثة في نفس المثقف المسلم- أو الإسلامي كما يحلو للبعض تسميتهم – ولا تسلبه هويته كإنسان ذو رسالة سامية ذات طبيعة متجاوزة للطبيعة نفسها، بل تمحيها وتعدمها حتى تصل به إلى مستوى الاحتفاء بـ (اللاشيء) كقيمة نهائية سامية يكد ويتعب الإنسان في الحياة ليصل في النهاية إليها في سعيه لفهم الحياة. وأن الوصول إليها ينم عن نفس مرهفة تشعر بعذابات الأخرين وترفض ظلام الواقع. بل وصل بهم الشطط عن روح الإسلام إلى اعتبار كل إنسان يرى في الحياة قيمة هو إنسان مجرد من الشعور ومغفل.

إن رفض هذا الإنسان لشرور الواقع مع عجزه وعدم امتلاكه لغاية متجاوزة، تدفعه للموت من أجلها – لا فقط العيش لأجلها –

ثم أغرتهم هذه الأفكار بالترويج لها في كل مكان وعلى كل منبر حتى تحولوا من نخب مثقفة إلى نخب مرجفة لا تزرع في نفوس الآخرين إلا الإحباط والتقاعس والقعود، ولا تزيد العوام إلا نفوراً منهم حتى باتوا ينبزونهم بلقب "القهوة الساخنة" كنايةً عن ثقافتهم الكئيبة، فأصبحوا فئة منبوذة من العوام الذين يفترض بهم أن يأخذوا بأيديهم إلى ما فيه نفع لهم. والسبب الذي جعل العوام ينفرون من هذه الفئة – التي تكاد تكون تخلت عن واجبها في قيادة المجتمع – هو قربهم من روح الإسلام وبعدهم عن ثقافة الغرب المادية والفلسفة العدمية.

لنسأل أولاً ما هو اللاشيء؟ اللاشيء ليس بشيء هو عدم بكل بساطة، فمفردة شيء ترادف مفردة موجود وعندما ندخل عليها لا النافية للجنس كأننا نقول (لا موجود) أي معدوم، هذا أمر واضح وجلي- أستسخف نفسي الآن وأنا أوضحه – بدليل قوله تعالى: "وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا" فكيف تَحول (اللاشيء) لقيمة يحتفى بها ولها مصادقيها في الخارج، وتُكتب فيها القصائد والمسرحيات وتستجلب بركة "إعادة التغريد" لمن يختم بها تغريداته؟

برأيي حصل كل هذا عندما أصبح المثقف المسلم الذي يبحث عن قيم الخير والعدالة والحق والجمال، يرى الواقع بعين الإنسان المادي الغربي الحديث الذي لا يمكن لروحه أن تتطلع لما هو متجاوز للواقع و للطبيعة، فبالتالي هو يطالب الطبيعة بما هو فوق قدرتها وبما هو خارج حدودها فيصل حتماً بالنهاية إلى اللاشيء. ثم إن رفض هذا الإنسان لشرور الواقع مع عجزه وعدم امتلاكه لغاية متجاوزة، تدفعه للموت من أجلها – لا فقط العيش لأجلها – مع ثقته التامة بأنه سيحصل على جزاء عادل، جعلته يؤمن أن السعي لإصلاح الواقع ليس سوى عبث لا جدوى منه وحولته لإنسان بائس ويائس ومحبط ومكتئب. والأهم جعلته إنساناً جباناً وكسولاً يهرب من مسؤولياته بحجة (اللاجدوى) فيرضى بالذل والهوان لا لعجزه كما يَدّعي بل حباً للسلامة يقول الشاعر:

حبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه .. عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ

فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً .. في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ

رضَا الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه .. والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ

فما بال المسلم المؤمن بالله وملائكته ورسله ومعجزاته وقدرته الغير محدودة وبالجن والشياطين والجنة والنار والحساب والدابة والمهدي المنتظر والأعور الدجال وشروق الشمس من مغربها، ونصر الله للمسلمين ببدر وبمحمد وعيسى وموسى ويونس- الممتنعة على الوجود بحسب نظرتهم المادية الغير متجاوزة للطبيعة – أدخل قلبه وعقله بصندوق صغير ثم اعتلى المنابر وأخذ يخطب بنا عن فضيلة اللاشيء، ويخبرنا إن سعينا لشتى، ويبشرنا بكل ما يشعرنا بتخلي الله عنا وعدم قدرته على التدخل بشؤون العالم وإننا ملعونون لأننا مُنحنا نعمة الحياة.

وإنها شر مطلق وأن حسن الظن بالله أو التفاؤل ليس سوى سخف وغباء وأن السنن الكونية خارجة عن قدرة الله لذا لا يمكن أن يتغير شيء، بل بعضهم عندما تقول له لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا يقول لك بلهجة استعلائية "ياااااا عمي اصح لن يحدث شيء" وعندما تقول له يقول الله: "إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" يقول لك يقول المعري: تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـجبُ إلا من راغبٍ في ازدياد! فيظهر من ذلك إنهم في محاربتهم للفكر الحداثي يقولون بأفواههم ما ليس بقلوبهم لأن قلوبهم غربية وأرواحهم تشربت كل ما اطلعوا عليه من إفرازات المادية فأثمرت (لا معنى ولا جدوى ولا قيمة).

إذاً تتجلى خطورة هذا الخطاب الدخيل الخبيث على المنظومة الإسلامية في استهدافه لأسين محوريين في تكوين الشخصية المسلمة وهما (السعي والعزة بالله) وذلك من خلال الترويج لفكرة عدم جدوى سعي الإنسان مادام سيصل للاشيء في كل الأحوال. وعجزنا أمام الواقع لأن الواقع هو من يحكمنا ولا سلطان على الواقع لأنهم يصورونه على إنه جبار ما فر من قدرة الله ونسوا قوله تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" والنتيجة كما نراها اليوم قعود وذل عام. ثم إن هذا المثقف المسلم لم يكتف بالدعوة إلى تحويل المسلم من حارث وهمام إلى فارغ ومهزوم، بل صار يحارب كل من يحاول أن ينهض بروح المسلم ويستحثها على العمل، لأنه يعتقد أن الدعوة إلى صناعة الحياة تعني تجاهل بشاعة الواقع الإسلامي، وأن تجاوز الصعاب ليس إلا خيانة لعذابات المسلمين.

بالإضافة إلى أنه يرى أننا يجب أن نتوقف عن الحياة إكراماً لحزن إخواننا ونسي أن خير خلق الله قال لصاحبه في الغار "لاتحزن" وقال الله للمؤمنين "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" وقال "لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ" وقال لمريم "أَلَّا تَحْزَنِي" وقال "إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا" والكثير من الآيات التي افتتحها الله بقوله ولا يحزنك، فهل هذا يعني ألا نشعر بعذابات المسلمين؟ قطعاً لا بل المراد هو أن لا يتلبسنا الحزن فنغتم ونذوي وننكسر فنفتر ونقعد عن العمل، بل يجب أن يتحول هذا الشعور لفعل على الأرض يقول الشاعر: وَمَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّةَ نَفْسِهِ.. فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فيها مُحَبَّبُ

إن من أهم مبادئ الإسلام هو الجهاد، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن يجاهد المغموم أو أن يقوم من سريره حتى، فإذا كان الله بعزته وجلاله عندما يخاطب المسلمين في وقت الجهاد يستحث هممهم ويدعوهم لترك الحزن، فأي مسلم هذا الذي يسخر من عبد يستحث الهمم ونحن في أمس الحاجة إلى النهوض؟ لذا يجب على المثقف المسلم أن يَقل خيراَ أو فَليصمت وأن يخشى الله في همم المسلمين وأن يتذكر قوله تعالى: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا". والأهم من ذلك أن يستشعر نعمة الحياة في زمن كهذا تعد حتى كلمة الحق فيه جهادً، ويدرك الغاية التي خلقنا الله لأجلها ألا وهي عمارة الأرض.

ويجب أن يعرف أن الحزن السلبي الذي يبشر به في حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي، ليس موقفاً أخلاقياً البتة في هذا الوقت الحرج في زمن الأمة التي فاضت بدموع المستضعفين منا، بل هذا هو التخذيل والتثبيط المنهي عنه بعينه، نحن بحاجة إلى حزن أبو فراس الحمداني عندما قال:

إِنّي أَبيتُ قَليلَ النَومِ أَرَّقَني .. قَلبٌ تَصارَعَ فيهِ الهَمُّ وَالهِمَمُ

وَعَزمَةٌ لايَنامُ اللَيلَ صاحِبُها .. إِلّا عَلى ظَفَرٍ في طَيِّهِ كَرَمُ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.