شعار قسم مدونات

إلهان عمر.. عندما تصنع المآسي أبطالا

BLOGS إلهان عمر

يمر جميعنا بمراحل حياتية صعبة، تجعلنا منكسرين، تتشابه أيامنا فيها بالمرارة، قد تجعلنا إما منهزمين نرفع رايتنا البيضاء أو أقوياء نسقط وننهض من جديد أقوى من كل المآسي، نحاول أن نصنع مجدنا، نعاند الأقدار ونتسابق معها. لن أتحدث عن حجابها الذي يناقشه الجميع بدلا من قصتها، ولا عن منصبها السياسي وكيف استطاعت أن تقلب موازين المقاعد داخل الكونغرس الأمريكي، خصوصا بعد تصاعد الخطاب المعادي للمهاجرين في الولايات المتحدة، بعدما تمكنت من دخول التاريخ ليس لكونها مسلمة أو محجبة أو لأنها ستنافس من موقعها الجديد ما يسمى ب"الإسلاموفوبيا"، ولكن ما أثارني فعلا وجعلني أبحث وأقف وقفة تأمل طويلة، هو تاريخها وطفولتها المؤلمة بكل تفاصيلها المثيرة.

إلهان عمر، الطفلة يتيمة الأم التي غادرت وطنها الأصلي الصومال، هربا من حرب أهلية قتلت الآلاف الفتيات في مثل عمرها، الآتي قررن الاستسلام للواقع ولسلطة الغاب التي اغتصبت أحلامهن وطموحاتهن، لكن بطلتنا إلهان شكلت استثناءا يجب أن يكتب في كتب التاريخ ويلقن لجميع النساء اللواتي ينشغلن بماركات الملابس وتفاهات الشنط والأحذية والمكياج، كيف حولت هذه الطفلة السمراء معاناتها إلى مصدر قوة بعدما عاشت فترة في مخيمات اللجوء في كينيا بأقل الإمكانيات الإنسانية، التي لم تحول بينها وبين تعلم اللغة الإنجليزية في أقل من أربعة أشهر عندما هاجرت رفقة أسرتها إلى ولاية مينيسوتا، لتعمل كمترجمة لجدها في المؤتمرات المحلية ولم يتجاوز عمرها الرابعة عشر بعد.

لقد قالت عندما تعرضت لاعتداء عنصري بالضرب من قبل عدة أشخاص خلال تجمع حزبي "عندما يكون الشخص قادرا على خوض التحدي، يتيح للآخرين أن يطلقوا العنان لأحلامهم أيضا"، رسالة قصيرة تحمل بين طياتها معاني كبيرة في الإصرار على مواجهة تحديات العنصرية وكراهية الأجانب والنساء المحجبات، فتلك الطفلة التي نضجت باكرا لا يمكن لها إلا أن تكون كذلك قوية، جريئة، تقوى على كل الصعاب.

ما أعظم أن تُخرج قساوة الحروب قصص بطولات يكتبها التاريخ، نعلم جميعا بوجود مثيلات إلهان كثر سواء في سوريا أو فلسطين أو اليمن، أو في أعالي أدغال إفريقيا، لازلن يناضلن هناك أو ربما على الحدود، يحاولن تغيير المصير المثقل بالحروب الطائفية والسياسية. ألا يقال أن الفقر ينجب الرجال، اليوم يمكننا القول أن المآسي تنجب نساء بألف رجل، خرجن من بحر الحروب والمعاناة بإرادتهن وبقوتهن، وبإصرارهن وتمسكهن بالحياة في الوقت الذي استسلم فيه الكثير من الرجال، علينا أن ننبهر بهن، ونقف ونصفق لهن، احتراما لتحويل نكسة حقيقية إلى نهضة عظيمة.

إلهان عمر لم تكن سوى النموذج الذي سلطت عليه الصحافة العالمية الأضواء، ستنضاف إلى جميع من ذكرتهم كتب الشامخين، الذين تشابهت معهم الظروف لتخرج منهم أشد المواقف وأدق البطولات لأن الحياة اعتادت بظروفها على اجبار الإنسان إما لإظهار أسواء ما فيه او أجمل ما فيه. هناك أيضا من أتيحت لهم كل الظروف والإمكانيات المادية والأمنية، ورغم ذلك مرو من الحياة مرور الكرام، وانشغلوا بصناعة التفاهات، وفشلوا في كل شيء، لأن المسألة ليست قضية ظروف ولكنها مسألة إرادة وشخصية ورغبة في صناعة ونقش التاريخ.

كثيرة تلك الأقدام التي مرت في هذه الحياة، ثم ارتحلت وانتقلت في الغابرين، فكان من بينها أقدام تلاشت معالمها، وذهبت آثارها، وأخرى ما زالت آثارها باقية، ومعالمها ظاهرة، قد ترحل، لكن بعد أن سطرت اسمها بالبند العريض، تشبه في تفاصيلها قصة إلهان عمر. أما عن مواقفها المشرفة اتجاه القضية الفلسطينية، فلا تترك النائبة فرصة إلا و هاجمت إسرائيل وممارسات الاحتلال، ما أثار حفيظة كثيرين من اليهود الأميركيين في ولايتها، خاصة حين كتبت في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، عام 2012 أن إسرائيل قد "تنوم العالم تنويما مغناطيسيا" وأنها تقوم "بأفعال شريرة"، كما وصفت إسرائيل في مناظرة سياسية في شهر أيار الماضي بأنها "دولة نظام الفصل العنصري الجديد".

نجاح الشابة الصومالية المرشحة اليوم لتكون من النساء اللاتي غيرن العالم، لم يتحقق من فراغ أو عن طريق الصدفة، فالذين يواصلون المحاولة بنظرة إيجابية للأشياء رغم مرارتها في كثير من الأحيان، يصلون إلى عمق طموحاتهم، فالإصرار على النجاح لا يتطلب عذرا، والفشل لا يترك أي مبررات. البعض منا لديه مدراج يقلع منها إلى النجاح، لكن إن كنت ممن لا يملكون هذا المدراج عليك أن تشيده بنفسك، كما فعلت إلهان، الخسارة الحقيقية ليست عند الفشل ولكن عند الانسحاب والاستسلام للواقع. فالبطولات الحقيقية لا تتحقق بالأمنيات والدعاء فقط وإنما بالإرادة تصنع المعجزات كمعجزة هذه الطفلة التي ولدت من رحم النزاعات لتتسلق المؤسسة الدستورية الأولى في أمريكا العظمى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.