شعار قسم مدونات

سنّة الاختلاف.. كيف يؤثر مرض الرأي المتفرد على علاقتك بالآخرين؟!

مدونات اختلاف

يقول مهاتما غاندي: "الاختلاف في الرأي ينبغي ألا يؤدي إلى العداء، وإلا لكنت أنا وزوجتي من ألدّ الأعداء". لا يخرج الإنسان عن طور الأثر الواقع منه وفيه، فهو مخلوق مجتمعي، أي أنّه لا ينفك يحتاج الجماعة من بني جنسه، يُرشدهم ويَسترشد بهم، وهذه السمة التي لا تنفك عنه تجعله فرداً مرتبطاً بما يلقى فيه من هذا المجتمع من عادات وأفكار وثقافة وسلوكيات، كما هو الحال في ارتباطه به معيشة وعوزاً.

ولقد قضت حكمة الخالق سبحانه أن جعل الاختلاف سنّة أبدية في هذا الخلق، سنّة هي غاية في الإبداع في هذا الخلق القائم على الاجتماع في سبيل عيشه، وسبباً أصيلاً لخلق البشر، قال ربنا سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ " فسنّة الاختلاف تدلّل أبلغ الدلالة على كمال الخالق المكوّن، وعلى التكوين الكامل للنّاس في معيشتهم، فلولا هذه السنّة لاندثرت الخليقة، "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ". واستناداً على هذه السنّة نرى اختلاف النّاس في إدراك عقولهم لها، فهم بين مشرف على كمال العقل الإنساني في فهم سنّة الاختلاف، وطبيعة التعامل مع المخالفين، وبين مقبل على البهيمية بأشدّ ما تكون عليه من الغباء بالإجرام بحق كل ذي رأي مختلف.

إن الغاية المنشودة والضالّة الحكيمة التي نتحراها هي أن نفهم سنّة الاختلاف ونعِيَ بداعتها، ونبرء من مرض الرأي المتفرد المستبد، ونتخلص مما صرنا إليه من الوهن والتشرذم الذي جناه علينا اعجاب كلّ ذي رأي برأيه.

وكما دامت هذه السنّة بدوام الخليقة، فإن هذين الصنفين دائمان بدوامها، وإنّك لو نظرت حولك لوجدت ذلك أبلج من أن لا تراه، ومعرض النّص في غالبيته يدور حول هذا الصنف الذي ساق إلينا كلّ بليّة وأوردنا كلّ حضيض. هذا الصنف الذي تروّض على الجمود والانغلاق ونشأ على التفرد والاستبداد بالرأي والفكر، والمعاداة للمخالف ورأيه بشرّ طرق الخلاف. هذا الصنف الذي يُغلق أبواب عقله على مرضه، ويرى رأيه الرأي المنير وقوله القول الفصل. إن من سلامة عقولنا أن نُقرّ أن هؤلاء هم شرّ نازلة نزلت بنا معاشر العرب والمسلمين، إذ هم السبب الأعظم في تخلفنا عن ركب الأمم ومصاف الحضارات.

عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم ينصحه: "الفهم الفهم فيما أُدلي إليك" ويمكن تلخيص هذا المرض المستفحل فينا فيما قاله عمر رضي الله عنه في نصيحته، إنّه مرض غياب الفهم. والعلاج ينتهي للفهم أولاً وأخيراً، فهم السنّة، وفهم أدبها وطرقها، وفهم الاحترام لأهلها، لرأيهم وفكرهم. هذا الفهم هو العلاج الأولي الذي نبحث عنه في طريقنا إلى استعادة مجد حضارتنا، فكيف لنا أن رجع في الدنيا نملكها ولا تملكنا ونحن لا نفهم طبيعة سنّة الاختلاف واحترامها؟ كيف ذاك وما زال القوي فينا اقتصادياً وسياسياً ومادياً يفعل ما يوافق هواه فيمن يخالفه الرأي؟

إنّنا أمام ثلاث خطوات لعلاج أمثل، أوّلها أن نقرّ بهذا المرض إقراراً باطناً لا ظاهراً فقط، إقراراً عملياً لا قولاً نفسياً منافقاً، تطبيقاً حيّاً فينا لا ادعاءً وتسميعاً، بحيث نكون أصحاب فهم دقيق لطبيعة السنّة البديعة، وأصحاب عمل يعقب الفهم. ثانيها أن ندرب أنفسنا على أسمى معانيها الإنسانيّة، ونربيها على أعظم ما يميز البشر بين علوّ وانحطاط، أن نروّضها على التواضع، الذي لا يتحقق في النفس دون لوازمه من احترام وتقبّل ومناقشة ونصح. أما آخرها فهو الاستجابة للرأي الآخر أن بان صوابه، والإيمان به أن ظهر عدله، والأخذ به ولو كان من وعاء غير وعاء رأينا.

هذه ثلاث خطوات على الطريق تسدد وتعين، وتأخذ الجميع لإدراك رأيّ الحرية والصحوة من ينابيع ضالة المؤمن، التي هي الحكمة. ووجب أن أنبّه لأمر مهم جداً، وهو أن الإقرار بسنّة الاختلاف واحترام طبيعة الخلاف لا تعني ضرورة قبول الرأي المخالف واعتناقه، فليس الاحترام في ذلك أن تؤمن وتتبع وتوافق كل ما يخالف رأيك، فهذه ليست الضالّة التي نتحراها. إنّما نبحث عن الاحترام الذي يقود للتقبل أن تمنّع القبول، والنقاش الذي لا تكون خاتمته التفرد والاستبداد، والعيش الذي يحفظ لكلّ أناس مشربهم، المراد فهم ما أراد الله حين أمرنا بالقسط والعدل بحق أهل الاختلاف معنا في الديانة أن لم يحاربونا ويعتدوا علينا، مراده في أن القسط والعدل حقّ البشر على أنفسهم فيما يحدث بينهم من اختلاف.

إن الغاية المنشودة والضالّة الحكيمة التي نتحراها هي أن نفهم سنّة الاختلاف ونعِيَ بداعتها، ونبرء من مرض الرأي المتفرد المستبد، ونتخلص مما صرنا إليه من الوهن والتشرذم الذي جناه علينا إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، ونعود لسابق عهدنا من المجد والعزّة. نعود على رأس هرم الأمم والحضارات، بوحدتنا رغم اختلافنا، باجتماعنا على احترام حقّ الرأي والفكر رغم اختلافنا في الرأي والفكر. ختاماً يقول الدكتور أيمن العتوم: "أقبل الاختلاف عنك، ولكن اختلافي عنك لا يعني اختلافي معك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.