شعار قسم مدونات

الأرض قرية صغيرة معزولة اجتماعيا

blogs وسائل التواصل

لقد غير الإنترنت طرق التواصل بين البشر وجعل العالم يختصر بضغطة زر في شاشة صغيرة، إلى أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي التي قلب الموازين كافة وجعلت الناس يعيشون في كوكب مهجور من البشر ومعزول اجتماعيا. لقد قطعت وسائل التواصل الاجتماعي الأوصال بين الناس. فبدلا من عمل اجتماع أسبوعي أو حتى شهري للعائلة، أصبح اجتماع العائلة يتم عبر الواتساب ويتم من خلاله مناقشة أوضاع العائلة واتخاذ القرارات والتوصيات المناسبة.  

 

بالرغم من ايجابياتها في تقريب المسافات وجعل الأرض قرية صغيرة، فإن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي وصل بالناس إلى مستويات قياسية فاقتْ درجة الإدمان. ولعل هذا الأمر يمكن ملاحظته جليا في بلدان جنوب شرق آسيا. في ماليزيا، مثلا، يمكنك أن تلاحظ بكل بساطة مدى سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي وأبرزها فيسبوك، تويتر، واتساب وانستجرام على عقل وحركة وتفكير الشباب والبنات وكل فئات المجتمع. وتكمن الصدمة عند ملاحظتك لعدد من الماليزيين أو الصينيين على وجه التحديد، من كلا الجنسين، جالسين في مقهى أو مطعم وكلٌ يمسك بهاتفه، وغالبا ما يلازم هذه الفئة عادة لباس النظارات الطبية. حتى أن الامر يزداد غرابة بين الشخص وحبيبته، وذلك بإمعان كل منهما في هاتفه بعيدا عن أي حديث شفوي بينهما إلا ما ندر.

  

بات عالم التواصل الاجتماعي مظهرا مقيتا في حياتنا اليومية التي لا يمكن أن يتحملها أحد. أصبحنا نفتقد جلساتنا العائلية التي نتشارك فيها أوقاتنا السعيدة وتمنحنا ذكريات جميلة تغنينا عن تدوينها عبر وسائل التواصل

واذا نظرت إلى حال القطارات، فسوف تجد أن 99 بالمئة من مستقلي القطارات في ماليزيا يتمنون أن تطول بهم الرحلة ليقضوا وقتا أطول في المحادثات. الامر الأشد غرابة، وهو أن تجد تفضيل سائقي السيارات، الخاصة وليس التاكسي، للقيادة على المسار الثاني والثالث، ذي السرعات الأقل، على المسار الأول، ذي السرعة العالية، الذي يكون معظم الأوقات فارغا، وهذا بسبب أنهم يرغبون في عدم قطع محادثاتهم ومراسلاتهم مع الأخرين أو حتى متابعة ألعاب الهاتف المفضلة لديهم أثناء القيادة.

  

أظهرت دراسات رسمية صادرة عن دائرة الاحصاء الماليزية في شهر مارس 2018 أن ما نسبته 97.7 بالمئة من أفراد المجتمع الماليزي الذين تزيد أعمارهم عن 15 عاما يستخدمون الهاتف النقال في حياتهم اليومية. وتركز ما نسبته 87 بالمئة من استخدام الهاتف على المراسلات والمحادثات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتحديدا تطبيق فيسبوك المفضل لدى الماليزيين بنسبة تزيد على 81 بالمئة.

 

وفيما يتعلق بأفراد الجاليات العربية والإسلامية المتواجدة في ماليزيا، نجد أن الأمر لا يختلف كثيرا عن حال أصحاب البلد عدا أن أفراد هذه الجاليات على اختلاف بلدانهم وأعراقهم يأتون إلى ماليزيا إما للدراسة أو البحث عن فرصة عمل أو هروبا من أوضاع مضطربة وغير مستقرة في بلدانهم، لذلك تجدهم يقضون معظم أوقاتهم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بأدواته المختلفة والتي كان أخرها تطبيق سنابشات الشهير والمفضل لدى غالبية الدول العربية والخليج العربي.

 

لقد بات عالم التواصل الاجتماعي مظهرا مقيتا في حياتنا اليومية التي لا يمكن أن يتحملها أحد. أصبحنا نفتقد جلساتنا العائلية التي نتشارك فيها أوقاتنا السعيدة وتمنحنا ذكريات جميلة تغنينا عن تدوينها عبر وسائل التواصل أو التقاط صورنا الشخصية لإظهار حجم السعادة التي تعترينا. بتنا نحن إلى ما يملئ عقولنا بالحوار الهادئ والبناء بعيدا عن خسارة أصدقاءنا بمجرد الاختلاف في وجهة النظر على قضية ما في منشور معين يكتبه أحدهم عبر فيسبوك. أصبحنا نتصارع في الاسراع إلى نشر الحالة اليومية الخاصة بنا أو بعائلتنا ظنا منا بأن ذلك من شأنه أن يزيد من مستوى سعادتنا أو معدل رفاهيتنا. أصبحنا نؤمن بأن إرسال رسالة إلى أختي التي تقطن بعيدا عني يعتبر كافيا ويغني عن زيارتها والأنْس بها وبعائلتها. لقد أصبح الرجل غريبا في بيته والمرأة غريبة عن أبناءها، وبات جميع أفراد العائلة يمسكون وبقوة هواتفهم أملا في ألا يقطعهم عنها أحد.

 

لقد سيطرت هذه الوسائل، بعيدا عن إيجابياتها، على معظم أوقاتنا إن لم يكن وقتنا كله بدون الانتفاع بذلك الوقت في مشاريع وأمور أخرى مفيدة وهادفة.  لهذا، أؤمن أننا بحاجة إلى العودة كثيرا إلى روتين الحياة اليومي الجميل والقديم، حيث كنا نعيش فيه كعائلة واحدة في قرية صغيرة وعلى كوكب واحد. فلنتذكر جميعا مبدأ التواصل الاجتماعي الحي الذي فطر عليه الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.