شعار قسم مدونات

عندما رأيت الجميع يدعوا الله بلغته دون تصنع!

blogs الكعبة

الدعاء عبادة، ترفع أكفك إلى الله سبحانه لتبوح له بكل ما لديك من أماني وأحلام، له وحده وأنت إن جربت أن تبوح بنفس الأماني لأحد من الإنس، لضحك عليك بملء فيه.. ماذا يقول هذا المجنون؟ لكن وأنت تنادي الله، شرط عليك أن تدعوا وأنت موقن بالإجابة وإلا ضيعت الفرصة من الله سبحانه، وخسرت! وأنت تدعو الله كل أحلامك الوردية لا يفصلها عن واقعك إلا كلمة: كن، ثم تكون.. وللدعاء وقع في أزمنة خاصة، ليلة القدر والثلث الاخير من كل ليلة ويوم عرفة وأوقات أخرى، لِما ورد في أحاديث نبوية صحيحة.

وهو كذلك له وقع في أماكن خاصة – مكة والمدينة والقدس – تميز بالبركات التي لا توجد على باقي الأتربة! فالدعاء بين جنبات الحرم، وعند باب المغاربة وعند باب الأسباط ليس نفسه الدعاء في ساحات مدينة مراكش الحمراء أو في ساحات بغداد.  لذا نجد كثير من الناس يلحون على الحجاج لبيت الله الحرام لكي يدعوا لهم بما تشتهي أنفسهم وتتمنى قلوبهم من خير، ولي في هذا تجربة خاصة.. كان قبل قصدي لمكة والمدينة أن اتصلت بي سيدة مصابة بمرض السرطان.

حين تبادلنا الحديث ذكرت لها عن غيابي في الأيام القليلة القادمة فردت على بصوت ممزوج بدمعات، لي دعوة واحدة يا محمد لا غير: لا تنساني من الدعاء هناك، أن يشفيني الله من عنده! كان مشهداً مؤثراً ولا أنكر أن عيناي دمعت حيناها، ولم أنسي المشهد وأنا في الحرم. وبعد وصولي وزوجتي للمدينة أولاً ثم مكة كان لوَقع المكان والزمان أثر كبير فيّ.. كان أول مشهد أن صعدت للفندق بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعد خطوات قليلة من المسجد النبوي، وأنا على النافذة أنظر وأتأمل ملياً اللحظة من فوق.. كيف أنا العبد الضعيف، الذي لا حول له ولا قوة يُنعم الله عليه ويناديه لزيارة هذا المقام المبارك والمناسبة تكون ليس عمرة ولكن حجة، في العشرينات من عمري! إنه للعجب الذي تسيل معه العبرات.

الأكف مرفوعة في كل وقت وهي كثيفة تراها: بين الآذان والإقامة، عند نزول المطر على أرض الحرم.. في الثلث الأخير من الليل..

وهناك تستشعر أموراً كثيرة جديدة، كما لم تستشعر بها من قبل.. كل ما قرأت في السيرة من أحداث ومواقف نبوية تعيد الآن قرائتها وشريط تفاصيلها من جديد، فالمكان الذي وقعت فيه كل تلك الامور أنت عليه الآن وقد يكون مررت من طريق هو نفسه كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم! وتستشعر أيضاً بعبادة الدعاء، استشعار لا يكاد وصلت له من قبل. الدعاء في الحرم له معنى آخر تماماً، وحلاوة لا يعلمها إلا من ذاقها.. والكلمات لا يمكن أن توفي حق ذلك الشعور ولا أن تصوره، فقط هي تُقرب شيئاً ما.. أدعية تحيط بك في كل مكان وصوب، كما لو كان أكبر تجمع للداعين لرحمة الله وفضله! بين المارة، بجنب الطرقات، في الطواف حول الكعبة، عند السعي بين الصفا والمروة، عند مياه زمزم..

أينما حللت هناك صدى للأدعية التي لا تنقطع وبشارات رحمات تُوزع بين العباد، لا تَنفذ..! في مكة والمدينة تجد المعتمر والحاج يتحرى الدعاء في كل وقت ويتحرى الأوقات الخاصة وسط هذا الوقت المبارك. الأكف مرفوعة في كل وقت وهي كثيفة تراها: بين الآذان والإقامة، عند نزول المطر على أرض الحرم.. في الثلث الأخير من الليل، يوم الجمعة، عند افطار المعتمر الصائم، وفي كل وقت تبث فضله عند الله سبحانه.. ومكاناً، يتحرى الإنسان أماكن خاصة للدعاء – في الصحن، عند الحجر الاسود، عند الروضة الشريفة.. وفي كل مكان تبث فيه فضل أعظم!

هو انتقاء الزمان والمكان وسط انتقاء.. وقد مررت من مشاهد تعتبر فيضاً من غيض عن دعاء المعتمرين.. أذكر منها، مرة وأنا في طواف التطوع بالدور الأول شد انتباهي رجلين كبيرين في السن، يظهر على ملامحهم أنهم من الشام، وعليهم علامات الصُحبة الطويلة والصادقة، كان أحدهم يدعوا والثاني يردد وراءه – آمين.. ولم يكن في دعائهم أموراً شخصية يتمنوها لأنفسهم أو لأسرهم، ولكن كان كل دعائهم على المجرم بشار: "اللهم عليك ببشار ومن أعانه، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر “آمين..  اللهم صب عليه العذاب صباً" آمين..

وكانوا بدعواتهم يخطفون الأنظار بين الطائفين، وفي طيات نداءاتهم رسالة لجموع المعتمرين: أين أنتم مما يجري على أرض الإسلام، أما تحرك فيكم أمر؟ ولكن الجموع الغفيرة غثاء كغثاء السيل، لا يملكون نفعاً أو جواباً! بعدها بدقائق معدودة أذن المؤذن لصلاة المغرب، وأقمنا الصلاة وتلا الإمام الآية: "الَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ‏سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ"

تجد الأدعية اللامتناهية تتناثر من أجنحة قلوب المسلمين، في منظر مهيب وغاية في الجمال، وتستشعر جيداً اسم: الله القادر، القادر على تحقيق جميع هذه الأماني دون أن ينقص في ملكه شيء.
تجد الأدعية اللامتناهية تتناثر من أجنحة قلوب المسلمين، في منظر مهيب وغاية في الجمال، وتستشعر جيداً اسم: الله القادر، القادر على تحقيق جميع هذه الأماني دون أن ينقص في ملكه شيء.

وفي السجود تسمع أنين من في قلبه إسلام وإيمان.. ومرة في مشهد آخر، وبينما الناس يمرون ذهاباً وإياباً، شد انتباهي رجل تظهر على ملامحه أنه من بلاد جنوب آسيا، كان يميل رأسه مستقبلاً الكعبة ويدعوا الله والدمعات تبلل لحيته البيضاء الكثيفة.. كان واقفاً بين المعتمرين وهو بينهم تابتاً يدعوا الله ويبكي بكاءً حارً.. وغير بعيد رجل آخر، يحمل بطاقة تعريفية عليها علم أفغانستان، وكانت ملامحه توحي بالعزة والأنفة والإباء! كان يرفع أكفه عالياً إلى السماء ويطيل في الدعاء، واسترقت السمع لعلي أعلم أي رحمة يدعوا من الله سبحانه وشدني الفضول لذلك، لكنني لم أفهم من كل نداءاته إلا كلمة – المجاهدين، وكان يبكي بكاءً شديدً، وكان المشهد مؤثراً لكل من رآه!

وأنا لا أعلم الوضع هناك بأفغانستان وما التفاصيل، كما أن عدد ممن صادفت بالحرم وتبادلت الحديث معهم لم يسمع قط باسم بلدي – المغرب وقد كنت أحسب من قبل أن بلدي هو "محور الكون" وهنا تذكرت عبارات: الحدود تراب، وأمة الإسلام واحدة! ظللت أنظر للرجل وأنا أجيب بيني ونفسي: آمين، ولو لم أفهم جل نداءاته. هنا بالحرم كما تجد جميع الأجناس البشرية على اختلاف شكلها وعرقها ولغتها وجغرافيتها، تجد الأدعية اللامتناهية تتناثر من أجنحة قلوب المسلمين، في منظر مهيب وغاية في الجمال، وتستشعر جيداً اسم: الله القادر، القادر على تحقيق جميع هذه الأماني دون أن ينقص في ملكه شيء.

وفي أخرى، وأنا على جبل الصفا رفقة زوجتي مستقبلين الكعبة ندعو بما تيسر من الأدعية الجامعة، إذا بي أسمع صوتاً بلحن غربي يردد ورائي: آمين! أطلت في الدعاء وظللت أسمع نفس الجواب، وكان رجلاً ذو ملامح أفريقية، لم نتصادف من قبل وما تعارفنا يوماً، لكن صلة الإسلام كانت كافية ليكون لنا نفس الدعاء وتكون لنا نفس الأحلام. ومشهد بساطة الدعاء بالحرم بين الناس تأسر القلوب وتشذ الأعين بجمالية اختلاف لغاتها ولهجاتها، هنا الدعاء بالعربية جنب الأمازيغية، والآردية جنب الفرنسية.. الجميع هنا يدعوا الله بلغته الخاصة دون تصنع.

وعن هذا أذكر موقفاً طريفاً وقع لي وزوجتي، بينما نهم في البدء بنسك السعي بين الصفا والمروة تصادفنا مع امرأتين يظهر عليهن أنهن من المغرب وكانوا كبيرتين في السن، إحداهن في سن السبعين ولكن رشاقتها تفوت رشاقة بعض الشباب! وسألانا: أنتم من المغرب اكيد، هل يمكن أن نرافقكم في سعيكم! قلنا: بكل فرح! سعينا جميعاً ورددنا دعاءً واحداً، وخلال سعينا أثارنا بكاء إحداهن، سألتها زوجتي: لماذا تبكين؟ أجابت: كنا ندعو الله بعد انتهائنا من طواف الإفاضة أن ييسر لنا شخصاً يشد بأيدينا للسعي بين الصفا والمروة لأنه لا علم لنا في ذلك، وقد استجاب لنا الله سبحانه الدعاء ولذا أبكي! والشاهد من هذا أنه بعد انتهائنا من السعي، أمطرانا بالدعاء وكان دعاءً بسيطاً خفيفاً، باللهجة المغربية: "سيروا الله يرضي عليكم، الله يديكم ويجيبكم فالنجا" كان دعاءً رائعاً، جماليته في بساطته وتلقائيته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.