شعار قسم مدونات

من غزة.. عزة المقاومة تفرض شروطها

blogs المقاومة

لم أكن يوماً ممن يؤيدون استخدام النصوص الدينية في الأمور التبشيرية دون الالتفات إلى ضرورة الأخذ بالأسباب، أو ممن يستخدمون الثقافة الدينية في تبرير التقصير. وأعني باستخدام النصوص الدينية نصوصاً مثل قول الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقول الله عز وجل: (وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها" رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "ليبلغنَّ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذلُّ الله به الكفر" رواه أحمد وصححه الحاكم.

وأعني بالثقافة الدينية ثقافة التبرير باستخدام قول الله تعالى: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)، وقول الله تعالى: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، وكلمات مثل: "قدَّر الله وما شاء فعل"، و"لعله خير"، و"قضاء وقدر"، وخلاف ذلك. لا أقبل هذا الاستخدام ليس إنكاراً للنصوص ولوعد الله تعالى حاشا لله؛ وإنما لأن هذه النصوص توضع في غير سياقها، وتكون مسلكاً لتبرير التقصير والتفريط وعدم الأخذ بالأسباب، وقد أوضحت هذا بجلاء في مقالة نشرتها سابقاً هي: متى نصر الله؟

لماذا أبدأ بهذه المقدمة؟ أبدأ بها لأستشهد بقول الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ) لأدلل بها على ما يحدث الآن في فلسطين؛ إذ شهد يوم الأحد الماضي 11 نوفمبر/تشرين الثاني حدثين لهما دلالاتهما؛ الحدث الأول تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في فرنسا والتي عبَّر فيها عن نيته العمل على إعادة الأوضاع في قطاع غزة المحاصر إلى الـ29 من مارس/آذار الماضي (في إشارة إلى موعد انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار)، وأضاف نتنياهو أن الهدف الذي يسعى المجلس الوزاري "الإسرائيلي" المصغر للشؤون الأمنية والسياسية للتوصل إليه، هو إعادة الهدوء إلى المستوطنات والبلدات الإسرائيلية المحيطة بالقطاع، في الوقت الذي يمنع خلاله كارثة إنسانية في غزة، وذلك لأنه يحاول "تجنب الحرب، إن لم تكن ضرورية" بحسب تصريحه.

سعت السلطة بكافة السبل للضغط على المقاومين في غزة كي يستسلموا، وشاركت في فرض الحصار على القطاع، ووقف مرتبات موظفي غزة، والتضييق على كل ما يُرسل لغزة

أما الحدث الثاني فهو محاولة قوة من جيش الاحتلال التسلل إلى قطاع غزة قرب منطقة خان يونس في سيارة مدنية في مهمة استخباراتية؛ غير أن كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" كشفت هذا التسلل، وأفشلت العملية باشتباكها مع قوة الاحتلال ليسفر هذا الاشتباك عن استشهاد 7 مقاومين، أحدهم قائد ميداني للقسام، وإصابة 7 آخرين، في حين قُتل ضابط صهيوني وأصيب آخر إصابة خطيرة؛ مما اضطر نتنياهو لقطع زيارته إلى فرنسا والعودة إلى فلسطين المحتلة ليعقد اجتماعاً عاجلاً لمجلسه الوزاري المصغر، مع استباق ذلك بتنبيه المستوطنين الذين يقيمون في مناطق محاذية لقطاع غزة بضرورة التزام الحذر، مع إغلاق المدارس في تلك المناطق التي يدرس فيها حوالي 300 ألف طالب.

وتشير التقارير السياسية وتحليلات المختصين إلى حرص دولة الاحتلال إلى عدم التصعيد، ومساعدة الوساطة المصرية التي تقود عملية التهدئة والهدنة مع وحركة "حماس"، وعدم الدخول في حرب "غير ضرورية" وفق قول نتنياهو؛ في حين تستهدف "حماس" الإثنين 12 نوفمبر/تشرين الثاني حافلة للاحتلال. تصريحات نتنياهو وحرصه وحكومته على عدم التصعيد وإجراءات الاحتلال الاحتياطية تدل دلالة واضحة على أن من يعاني ليس أهل قطاع غزة فقط، وإنما الاحتلال يعاني كذلك؛ فيصدق في الطرفين قول الله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ).

وإذا كان الجزء السابق من الآية يخص مقاومي غزة؛ فإن الجزء الأول من هذه الآية وهو قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ) فإنها تخص السلطة الفلسطينية التي ما فتئت تتقرب من الاحتلال وتقدم كافة أشكال التنازلات طمعاً في نظرة رضا من عدوِّهم، وكسرة خبز من مُطْعِمِهم، وشبر من الأرض من مُحتلِّهم، وإذا بهذا المحتل لا ينظر إليهم، ولا يلقي لهم بالاً؛ بل يمعن أكثر وأكثر في إهانتهم وإذلالهم وخلع حتى ورقة التوت التي تغطي سوآتهم.

لقد سعت السلطة بكافة السبل للضغط على المقاومين في غزة كي يستسلموا، وشاركت في فرض الحصار على القطاع، ووقف مرتبات موظفي غزة، والتضييق على كل ما يُرسل لغزة، وملاحقة مؤيدي المقاومة في الضفة الغربية واعتقالهم؛ هذا عوضاً عن الخطابات التخوينية والتشويه الإعلامي واختلاق الأكاذيب، وصولاً إلى تمثيليات التصعيد كالمحاولة "المفبركة" لاغتيال رئيس وزراء السلطة عند دخوله قطاع غزة.

المقاومة هي الطريق الموصل للعزة والحرية والسيطرة، وإن بدا آنيًّا أن الأمر غير ذلك، أما أي طريق آخر فلن يصل إلا إلى هوانٍ وذل وعبودية
المقاومة هي الطريق الموصل للعزة والحرية والسيطرة، وإن بدا آنيًّا أن الأمر غير ذلك، أما أي طريق آخر فلن يصل إلا إلى هوانٍ وذل وعبودية
 

بالرغم من كل ما يعانيه قطاع غزة من حصار وتضييق وضغط وتعطل في كافة مناحي الحياة فيه؛ إلا أنه ما زال يفرض شروطه، ويضع قوانينه حتى على المحتل، والمحتل هو الذي يسعى إلى التهدئة معه بكافة الطرق. بينما السلطة الفلسطينية التي تحيا رغد العيش في ظل سيدها المحتل وتساعد بكل طاقتها لقتل أبناء شعبها في غزة، قد حفيت أقدامها وبليت أحذيتها سعياً وراء الاحتلال ليرمي لهم فتاتَ سلامٍ، وما هو برامٍ.

الدرس الواضح الجلي أن المقاومة هي الطريق الموصل للعزة والحرية والسيطرة، وإن بدا آنيًّا أن الأمر غير ذلك، أما أي طريق آخر فلن يصل إلا إلى هوانٍ وذل وعبودية. درس وضعته المقاومة في غزة المحاصرة، ولم تفهمه السلطة في الضفة الغربية فغدت لا تملك من أمرها شيئاً. أهل قطاع غزة محاصرون نعم، يعانون نعم، يألمون نعم؛ لكن عدوهم يألم كما يألمون، وهم يرجون من الله ما لا يرجوه عدوهم. وإذا سقط منهم قتلى فقد سقط للعدو قتلى، لكن "لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار" كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه يوم أحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.