شعار قسم مدونات

القلم بمواجهة السلاح.. من الفائز في نهاية السباق؟!

blogs قلم

بين فوهة المسدس والهدف المرغوب في إصابته، مسافة تقطعها الرصاصة للوصول، وتكون النتيجة كما هو مطلوب حسب احتراف المسدد الذي ضغط على الزناد، ويحدث هذا الأمر، للقضاء على سلوك يٌشكل تهديدا على الطرف الذي استعمل السلاح أو الذي استأجره لأجل ذلك، وهنا نقول بأن دور المسدس يكمن في إنهاء حياة صاحب السلوك بشكل كامل وليس السلوك فقط، وهنا لا بد من توضيح فكرة مهمة وهي أن إنهاء صاحب السلوك لا يُنهي السلوك، وإنما يقضي فقط على وسيط بين الفكرة والفعل.

إن أي سلوك كيفما كان يأتي انطلاقا من فكرة تقطن في مقطورة ما ضمن العقل، ولتخرج إلى العالم الخارجي كظهور تُلفت انتباه الآخرين لها، لا بد من جسد ليقوم بذلك، وهنا يظهر أن السلوك هو الظهور الفعلي للفكرة بينما الجسد هو الوسيلة لهذا الظهور. فالقضاء على الجسد، لا يقضي على السلوك، لأن الجسد لا دور له في الحياة سوى تفريد السلوك وليس تشميله، بمعنى أن السلوك متعدد بينما الجسد متفرد، والجسد يتبنى السلوك بتفرد لكن السلوك يظل متعددا بين أجساد متعددة. ومع ذلك يبقى السلوك مجرد ظهور للفكرة، أي لا وجود له لولا فكرة سابقة في العقل لها هدف معين في العالم الخارجي تسعى للوصول إليه، والخطورة في الفكرة هو أنها تتخذ ثلاثة أشكال مرتبة حسب البداية، وهي التَّبَطُّن والتَكَتُّب والتَّسَلُّك.

فأصل الفكرة هو التبطن، الذي يجعلها تنمو وتكبر وتأخذ طاقة ناضجة، تبحث عن التمدد في عقول أخرى، وهي مختفية في هاته اللحظة، ولا يشعر بها سوى صاحبها، الذي يلاحقه اضطراب الرغبة في إظهارها للآخرين، وقلق النتيجة التي يمكن أن تُحدثها لو ظهرت، فإن كان الاضطراب أقوى من القلق، فإن صاحب الفكرة يبحث عن طريقة لإخراجها مهما حدث، أما إن كان القلق أقوى فإن الفكرة تبقى مُتَبطنة. ومَنْ يُحدد الكفة التي ستكون الأكثر ترجيحا بين الاضطراب والقلق، هو الوسط الذي يعيش فيها صاحب الفكرة، فإن كانت العوائق أقوى في هذا الوسط، فإن كفة القلق تكون هي الأكثر ترجيحا، أما إن كانت الحوافز هي الأكثر قوة فإن الاضطراب سيكون الكفة المرجحة في هذا التوازن.

الفكرة ليس شيئا بسيطا يمكن القضاء عليه بالقضاء على الجسد الذي يُكَتِّبها أو الذي يُسَلكها. فإن مات الجسد، فإن الفكرة تتمدد بدمائه عبر المكان

فظهور الفكرة، إن كان الاضطراب هو الأقوى، يكون بطريقتين إما التَكتب أو التَّسلك، وهنا لابد أن نشير إلى أمر مهم جدا، وهو أن الفكرة حين تحاول الظهور على شكل التكتب فإنها تعتمد على إحدى الوسائل الخطابية الممكنة، فإما أنها تعتمد على الوسيلة الأدبية أو المنطقية أو العلمية أو الإعلامية أو التوجيهية. وهذه كلها وسائل تحاول إظهار الفكرة على شكل التكتب.

إن التكتب يجعل الفكرة كفيروس ينتشر بين العقول الأخرى، عن طريق القراءة، فالكتابة لا قيمة لها بدون قراءة، فالكاتب دائما ما يضع صوب عينيه أن فكرته ستظهر أمام الآخر عن طريق القراءة، أما القارئ فإنه يرى صاحب الفكرة انطلاقا من كتابته. فقيمة الكاتب تكمن في الفكرة التي يضعها وفي الأسلوب الذي اعتمده لكتابتها وأيضا على الوسيلة الخطابية التي أظهر بها تلك الفكرة. فالكاتب إذن يتجسد في عقل القارئ انطلاقا من كتابته، ويُصبح بذلك عبارة عن ذكرى تحضر كلما كان هناك إشارة ما إلى فكرته أو فكرة ما لها علاقته بفكرته، بمعنى أنه إن كانت فكرته أكثر انتشارا فإنه سيكون أكثر حضورا، وكلما كانت فكرته إنسانية تمس الإنسان فإنها تكون أكثر إمكانا للتَّسَلُّك.

حين تبدأ الفكرة في الظهور كسلوك، فإنها تصل لمستوى التجذر داخل المجتمع، ويُصبح صاحبها أكثر حضورا من ذي قبل، بل ويُصبح خالدا. ويصبح لديه مجموعة من الأجساد التي تُمثل فكرته إما بشكل سيء أو جيد أو أفضل. إن الفكرة دائما لها صاحبها الذي أبدعها، وذلك القارئ الذي قرأها وتبناها، ثم المتأثر الذي تأثر بكاريزما القارئ. وبهذا نلاحظ بأن الفكرة ليس شيئا بسيطا يمكن القضاء عليه بالقضاء على الجسد الذي يُكَتِّبها أو الذي يُسَلكها. فإن مات الجسد، فإن الفكرة تتمدد بدمائه عبر المكان. فمادام أن الفكرة تخرج كشكل تَكَتُّب، فلا يمكن أن تقضي عليها حتى وإن قضيت على كاتبها، ومن الغباء القيام بذلك، لأنك تجعل القارئ والمتأثرين بالقارئ، يتحدثون عن موته، ويستحضرونه أكثر من ذي قبل حين كانوا يستحضرونه فقط كصاحب فكرة.

فبعد موته يُصبح استحضاره لزوما أخلاقيا، بل وأكثر من هذا، يصبح استحضاره لزوما لنيل الاعتراف. فالإنسان يبحث عن الامتياز، ومن ضمن الامتيازات التي توجد أمامه هي امتياز تحدي الأقوى، فإن تم قتل الكاتب فإن القارئ والمتأثر بالقارئ يجد في استحضاره تميُّزا كتحدٍّ للأقوى صاحب السلاح. ومن هنا نجد أن القلم أقوى من السلاح، ولا يمكن لرصاصة قضت على جسد وتعاونت مع الأحماض الأكَّالة لتذويبه، أن تقضى على الفكرة وعلى ذكرى صاحبها الذي أخرجها بالقلم.

 

من الممكن (كحلم) أن أقول أنه يمكن القضاء على الفكرة قبل أن تخرج، ولكن هذا من المستحيلات الأربعة، فعدم ظهروها يعني عدم وجودها بالنسبة للآخر، وبذلك فلا يمكن لأحد غير صاحبها أن يعلم إن كانت موجودة أم لا. إن هذا يعني بأن التُّبطن يلعب دورا جنونيا في المجتمعات، فعدم ظهور الفكرة يُهدد دائما الأقوى صاحب السلاح، الذي لا يعلم ولا يشعر أبدا بهذا التهديد.

 

لأن وجودها يكون بالقوة ذات الإمكانيات المتعددة للظهور، التي تجد أمامها مجموعة من الطرق التي يمكن بها أن تخرج، وحين يستعد صاحبها لإخراجها يختار أحد الإمكانيات أو مجموعة منها ليفعل ذلك، بينما يظل صاحب السلاح في وضع المُغفَّل الذي لا يملك أية إمكانيات، سوى إطلاق الرصاص على الجسد، حين تظهر الفكرة، ولكن حين تظهر فإنها تنزاح إلى الفوضى والانتشار ولا يمكن إمساكها أو قتلها، فحتى وإن تم قتل الكاتب فإنها تستمر في الانتشار، بل يعمل موت الكاتب إلى تسريع انتشارها، لهذا من الغباء قتل صاحب الفكرة، لأنه لا يستفيد من هذا سوى الفكرة ذاتها.

المسافة التي تقطعها الرصاصة من فوهة السلاح إلى حامل القلم، تستغرق وقتا أكبر مقارنة بالوقت الذي تستغرقه الفكرة حين تُفرز بالقلم مُنطلقة إلى العقول لتجد مجالا في ذاكرة القراء
المسافة التي تقطعها الرصاصة من فوهة السلاح إلى حامل القلم، تستغرق وقتا أكبر مقارنة بالوقت الذي تستغرقه الفكرة حين تُفرز بالقلم مُنطلقة إلى العقول لتجد مجالا في ذاكرة القراء
 

إنها جنون شبحي لا يمكن إيقافه برصاصة حتى وإن كانت من الملح الحجري أو من الفضة، فهي تنطلق بسرعة أكبر من سرعة الضوء والجاذبية، تنتشر بين العقول وتبحث عن ظهورها الثاني، أي التسلك. من العبث إذن أن نضع السلاح في مواجهة القلم، فدائما يكون هذا الأخير هو المنتصر داخل ميدان المعركة، فإن تُرك وشأنه فهو يزيد من توسيع إمبراطوريته، أما إن تم قتله، فإنه يُصبح شبحا يُطارد القاتل في كل مكان، بحضور ذكراه عند قراء الأوراق التي فاض عليه حبره.

إذن فالمسافة التي تقطعها الرصاصة من فوهة السلاح إلى حامل القلم، تستغرق وقتا أكبر مقارنة بالوقت الذي تستغرقه الفكرة حين تُفرز بالقلم مُنطلقة إلى العقول لتجد مجالا في ذاكرة القراء وحضورا في السلوك الفردي. إن قدرة السلاح في إطاحة الجسد لا تعني شيئا أمام فكرة تحيي في سلوك أفراد، بل ثقافة مجتمعات، فهي التي تبني الإنسان والحضارة، أما الرصاصة فلا قوة لها سوى تعطيل الجسد عن حمل القلم، بينما تظل الفكرة ترتاع بين العقول كيفما تشاء، إنها لعنة تُرهق الطغاة ونعمة أمل تتغذى منها عقول المستضعفين.

وفي الأخير، أريد أن اُقدم نصيحة فاوستية (من باب الموضوعية) للطاغوت، وهي أنه إن أراد أن يقضي على الفكرة فيجب عليه أولا أن يواجهها بفكرة، وثانيا أن يكون ذا سمعة طيبة لدى القراء أو أن يكون مجهولا بالمرة. لكن مع ذلك تظل هذه الاحتمالات التي وضعتها له، غير ممكن مادام لم ينزع مايكل مايرز وجهه المزيف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.